كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 3)

أنهم، بسبب استغراق الشهوات لنفوسهم وصيرورتها قائدا لهم يتبعونه، قد أصبحوا يريدون أن يكون الناس على شاكلتهم من الانحراف. وقد بين سبحانه إرادتهم للمهتدين فقال: (أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)، والميل أصله الانحراف من الوسط إلى جانب من الجوانب، ولما كان الاعتدال فيه العدل أطلق الميل على الجور والاعتداء، وهؤلاء لَا يكتفون بمجرد اليل يريدون الناس عليه، بل يريدون أن يميلوا ميلا عظيما، أي يريدون أن ينحرفوا انحرافا مطلقا فيبتعدوا عن الاعتدال إلى أقصى الانحراف.
سبحانك ربي، ما أصدق بيانك وأحكم قرآنك! إننا نجد الآن كما كان في الماضي الذين يتبعون الشهوات ويريدون من أهل الحق أن يميلوا ميلا عظيما، فهؤلاء الآن يدعون إلى مجونهم، مرة باسم الوجودية، وأخرى باسم التحرر، وثالثة باسم الحرية، وقد كتبوا في ذلك كتبا، ونشروا قصصا مثيرة يدعون إلى أن يميل الناس كل الميل، واسترسلوا في ذلك استرسالا بكل وسائل الدعاية، فمن خيَّالة تُرِي المناظر المثيرة، ومناظر في الطرقات تحرض على الفسق والمجون، ومن استباحة علنية لكل ما يخالف الدين والخلق لتتحقق إرادتهم، ولكن إرادة الله تعالى غالبة بعونه سبحانه.
* * *
(يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ... (28)
* * *
يريد الله تعالى بهذه الأحكام التي ليست فيها شدة تنوء بها القوى الإنسانية، وليس فيها حرمان من الطبائع البشرية، كما أنها لا تفتح باب الشهوات والعبث والمجون، يريد سبحانه أن يخفف عنكم، فلا يكون فيكم الحرمان من متع الحياة، ولا يكون فيكم الانطلاق الذي يحل جماعتكم، ويسلط عليكم الأهواء والشهوات، فترديكم، وتذهب ريحكم، فشرع الله تعالى إباحة الطيبات، ومن حرمها فقد خالف أمر ربه إذ قال سبحانه: (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. . .)، وقال تعالى: (قُلْ مَنْ حرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. . .)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " كلوا

الصفحة 1653