كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 8)

وأطلقت الأودية وأريد ماؤها من قبيل إطلاق المحل وإرادة ما يحل فيه، مثل قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ)، أي أهل ناديه، وقيل: سالت الأودية وأريد الماء؛ لأن السيل شديدا عنيفا قد طم، حتى اختفت الأودية من شدته فصار الناظر لا يرى إلا المياه المتدفقة، وكان حكمه على ما يراه، لَا على محله، وقوله تعالى: (بِقَدَرِهَا) وقرئ بسكون الدال لَا بفتحها، والمراد بمقدار ما يملؤها، وقيل: بما قدر لها من ماء يكفي الناس في معاشهم وزرعهم وضرعهم، ويصح إرادة المعنيين، والنص يحتمل الجمع، ولا تعارض بينهما.
و (الزبد) ما يحمله الماء عند جريانه وجيشانه من أتربة وغيرها، وإن هذا بلا ريب يذهب ولا يبقى، بل أحيانا يكون رغوة يبددها الهواء، فهي كأزيز (¬1) الموج يصطخب ولا يبقى منه شيء.
ولقد قال تعالى توجيها لأمر آخر، وهو الفلز عندما يُفْتَن ليخرج ما فيه من خبث تعلق به من باطن الأرض فقال شأنه: (وَمِمَّا يوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مثْله) (مما) مدلولها الفلزات من المعادن وهي القابلة للطرق والسحب أو التي تنصهر بالنار كالذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير وغيرها، و (فِي النَّارِ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف يفهم من القول، والمعنى: مما يوقدون عليه ملقى في النار، وقوله: (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مثْلُهُ) أي مما يلقى في النار الموقدة بقصد طلب حلية كالذهب والفضة (أَوْ مَتَاعٍ)، أي أمر ينتفع به كالأواني، وأدوات الحروب وغير ذلك (زَبَدٌ مثْلهُ)، أي أن خبث الفلزات يكون كالزبد الذي يجيء من إثارة الماء للتراب واصطخاب الأمواج. والجُفاء هو ما يلقيه السائل بعيدا ليصفو، وذلك من قولهم جفأه السيل، وقد مثل اللَّه تعالى المهتدي بالبصير، والضال بالأعمى، والعبادة الحقة بالنور، والباطلة بالظلمات في الآية السابقة. وفي هذه الآية مثَّل الحق بالماء الذي ينزل من
¬________
(¬1) الأزيز: كل صوت يأتي من شدة الحركة، فيقال أزيز الموج، وأزيز الطائرة، وأزيز النحل، لذلك.

الصفحة 3924