كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 9)

وعطف اللَّه تعالى الأمر باجتناب قول الزور على اجتناب الأوثان؛ لأنهم كانوا يحرمون على أنفسهم بعض بهائم الأنعام، وينسبون التحريم إلى اللَّه كاذبين مزورين، ولا حج لهؤلاء، ولا خير لهم في تعظيمهم بعض مناسك الحج؛ لأن الخير يكون لمن قام بالواجب، وأبعد موانع القربى إلى اللَّه تعالى.
وقد وصف اللَّه تعالى الذي يكون تعظيم حرمات اللَّه خيرا له عند ربه بقوله تعالى:
(حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
هذه الآية جزء متمم للآية السابقة متصلة بألفاظها؛ ولذا كانت كلمة (حُنَفَاءَ) حال من " الواو " في (فَاجْتَنِبُوا)، أي اجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور حال كونكم خالصين للَّه تعالى مستقيمين سائرين في سبيله، و (حُنَفَاءَ) جمع حنيف، وهو المائل من الانحراف إلى الاستقامة، فهؤلاء يخلصون من رجس الأوثان، ومن قول الزور الاستقامة والإخلاص للَّه تعالى أي يكونون كلهم للَّه تعالى لَا يبغونها عوجا فليس فيهم ضلال قط، ولا إشراك قط، بل خلصوا أنفسهم للَّه وحده، لَا يشركون في قلوبهم غيره، ولذا قال تعالى مؤكدا معنى إخلاصهم للَّه تعالى: (غَيْرَ مُشرِكِينَ بِهِ)، حال بعد حال، أي غير مشركين به أحدا أو شيئا في عبادته، وضرب بعد ذلك مثلا للمشركين يصور كيف ينحدر من سماء العقل والفكر، إلى منهوى الأرض، فقال تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) شبه اللَّه تعالى من يشرك باللَّه تعالى قد أضله الشيطان وأغواه بتشبيهين مبينين المنهوى الذي انهوى إليه عقله ومداركه، فشبهه في الأول بمن خر من السماء هابطا، ففي هبوطه تخطفه الطير، فتقطعه بمناقيرها، والتهمته أجزاء، وذلك لأن من أشرك قد هوى من سماء الإدراك السليم، والفكر المستقيم إلى مهاوٍ توزعته الأهواء، حتى صار ليس له فكر جامع، بل صار موزعا بين ضلال شتت نفسه، وصار موزعا بين أوهام فاسدة لَا راشدَ يرشده، ولا عقل يهديه.

الصفحة 4980