كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 10)

عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل عندما سمعا الآية من قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَان مِن سُلالَة مِّن طين) إلى قوله تعالى: (ثُمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، قالا: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هكذا أنزلت (¬1)، ونحن لَا نرضى هذه الرواية، ولكن ذكرناها؛ لأنها تنبئ عن أن هذه الجملة السامية ثمرة طيبة للخلق السابق.
والبركة أصلها من موضع برك الجمل، وقد أطلقت على كل أمر خير ثابت، (فَتَبَارَكَ) معناها تسامي في البركة وعلا، حتى لَا يناهده أحد في خيره الدائم، و (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، أفعل التفضيل ليس على بابه إنما معناه أن خلق اللَّه تعالى وصل إلى أعلى درجات الحسن، بحيث لَا يناصبه حسن قط، وحقا لقد خلق اللَّه الإنسان في أحسن تقويم، كما قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم).
وإن نهاية هذا الإنسان في الدنيا هي الموت، ولم يخلق عبثًا، بل يكون بعد الموت البعث؛ ولذا قال تعالى:
¬________
(¬1) رواه الطيالسي، وابن أبي حاتم وابن مردويه، وابن عساكر، وهو صحيح. كما في كنز العمال (35747): ج 1/ 2549.
(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
العطف بـ " ثم " في موضعه؛ لأن مؤداه أنهم بعد خلقهم في أحسن خلقة، ومنهم من يرده اللَّه تعالى إلى أسفل السافلين، ويستمرون إلى أجل مسمى، ضَلوا فيه أو اهتدوا، أخلصوا دينهم لِلَّهِ أو كفروا، وبعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين إنهم، بعد هذا الدور لميتون، وقد أكد سبحانه موت الناس مع أنه واقع مشاهد كل يوم يموت ناس ويولد ناس، وكان التأكيد بـ " أنَّ " وبالجملة الاسمية، وباللام وبالوصف، (مَيِّتُون) وكان ذلك التوكيد لكيلا يغتر الناس بغرور هذه الدنيا، وأنها إلى فناء مهما طَالت، وأن الحياة الآخرة هي الباقية الخالدة في سعادة ونعيم، أو في شقاء وجحيم.
وفى التعبير بالوصف (مَيِّتُونَ) إشارة إلى أن حياتهم في الدنيا كانها الموت لأنه يترصدهم، فلا يغتروا بغرورها، وبعد الموت يكون البعث، ولذا قال تعالى:

الصفحة 5055