كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 10)

ذكر اللَّه تعالى نبذة صغيرة من قصة نوح عليه السلام مشيرة إلى سائرها الذي ذكر مفصلا في سورة هود، وهي نموذج قرآني لقصة الذين كانوا بين نوح ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، من الرسل، في تكذيب أقوامهم، ونوع هذا التكذيب، فهم يحسبون أن الرسول لَا يكون بشرا يأكل مما يأكلون، ويشرب مما يشربون، ويحسبون أنه لَا بعث ولا نشور، وأن الأتباع يكونون من الأقوياء لَا من الضعفاء الأذلين في زعمهم الفاسدين، وفي ذلك بيان أن ما ينزل بمحمد من بلاء الأقوياء المستكبرين هو صور من صور ما لاقاه النبيون من نوح. فعليه الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
قال تعالى:
(ثُمَّ أَنشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ).
العطف بـ (ثُمَّ) لتطاول الزمن بين نوح، وبين من جاءوا بعد، والقرن جماعة من الناس، وذكرهم سبحانه وتعالى بالمفرد ولم يذكرهم بالجمع، لتشابه أحوالهم في نوع إنكارهم، وما يدعون إليه رسلهم، فكانوا كقرن واحد، وليسوا قرونا متعددين، وكلمة (آخَرِينَ)، أي ليس هم قوم نوح، وإن كانوا على شاكلتهم، وكفروا كفرهم، وضلوا ضلالهم. ولم يذكر سبحانه من هم هذا القرن، ولا شك أنه جاء بعد نوح عاد وثمود، ومدين، وأرسل لهم رسلا آخرين دعوهم إلى ما دعا إليه نوح عليه السلام، من توحيد، وإيمان بالبعث والنشور، وأن الثواب للمؤمنين، والعقاب للظالمين، ولم يذكر اللَّه تعالى بالتعيين هؤلاء الأقوام، وإن لم يقصص القرآن قصصهم فقد قال تعالى: (مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ). وإن أهل هذه القرون أُرسل إليهم رسل فقال تعالى:
(فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
في هذا النص أنه سبحانه وتعالى أرسل إليهم رسولا، مع أن الذين جاءوا بعد نوح رسل في أقاليم مختلفة، وفي قرون متوالية، رسولا بعد رسول، وربما يكونون عدة رسل في جيل واحد، كإبراهيم ولوط، وكموسى وهارون، ولكن أفرد ذكر الرسول؛ لأنهم جميعا جاءوا برسالة واحدة وهي التوحيد، والإصلاح، فهم وإن

الصفحة 5069