كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 10)

سبحانه وتعالى إيتاء موسى هذا الكتاب الذي يعد دستور الحكم لأرض مصر وغيرها، ويقيد فرعون وغيره، ويكفه عن طغيانه، جاء موسى بهذا من عند اللَّه تعالى في عصر لم يكن يعرف إلا حكم الطاغوت من فرعون وأشباهه من طواغيت أهل مصر، (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)، أي رجاء أن يهتدوا إلى العمل الصالح، وأن يعرفوا ما لهم من حقوق إنسانية، وما عليهم من واجبات، وتنظم بها العلاقات بين الناس على أساس من العدل والحق.
ويجب أن ننبه هنا إلى أن الذي بين أيدينا مما يسمى كتب العهد القديم ليست هي توراة موسى، بل نسوا حظا مما ذكروا به، وزيد فيها أحاديث ما أنزل اللَّه بها من سلطان بل هي أساطير الأولين.
وبعد موسى جاء أنبياء ينفذون أحكام التوراة التي كانت صادقة، كداود وسليمان وأيوب وغيرهم، ثم جاء من بعدهم عيسى عليه السلام، ولذا قال تعالى:
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) أي صيرنا ابن مريم وأمه آية، أي معجزة خارقة للعادة، وعرف عيسى بأنه ابن مريم لبيان أنه ليس له أب، وأن مريم ولدته من غير أب، وكان بذلك هو وأمه آية خارقة لمجرى العادات، ذلك أن مجرى العادات في الأسباب والمسببات أن الولد يكون من نطفة توضع في رحم المرأة فيجيء الولد بإذن اللَّه تعالى، كما تبين في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13).
إلى آخر الآيات الكريمات، فكانت المعجزة في أن عيسى جاء من غير أب؛ وذلك لإثبات قدرة اللَّه تعالى وإرادته، وأنه مختار فعال لما يريد، ذلك أن الفلسفة الأيونية التي ظهرت في آسيا الصغرى، وتولدت منها الفلسفة اليونانية كانت تؤمن إيمانا عميقا - ولو كان باطلا - بأن الدنيا وجدت بالسببية، أي بوجود المعلول عن علة، حتى قالوا إن الكون كله وجد عن السبب الأول بالعلة، وبولادة عيسى من غير أب تبين أن اللَّه فاعل مختار، رزاق، وهو ذو القوة المتين، وكان عيسى عليه السلام وأمه آية خارقة للعادة، فأمه - عليها السلام - حملت من غير نطفة، وهو ولد من غير أب، فكانت المعجزة في كليهما، ومكونة منهما.

الصفحة 5080