كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 10)

وأما رحمته فهي أنه سبحانه وتعالى لم يأخذهم بأمر عارض، بل غفر لهم، وأي رحمة أعظم من غفران لعمل كان منهم بجهالة، ثم تابوا من قريب، كما قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ. . .).
وجواب الشرط (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) و " مَسَّ " معناها أصاب جلودكم كما يمس الحديد المحمى الجسم الحي فيؤلمه. وفي كلمة (أَفَضْتُمْ فِيهِ) " أفاض " أصلها من فاض الإناء حتى سال، ومعنى (أَفَضْتُمْ) فيه مجاز بالاستعارة، إذ شبه حديثهم الذي خاضوا فيه غير محترسين ولا مفكرين، بالماء الذي يسيل، فلا يضبط، وكأن الحديث يسيل سيلا زائدا عن حده، وبغير غاية.
وقوله تعالى: (عَذَابٌ عَظِيمٌ) التنكير فيه للتعظيم، أي عذاب لَا تدركونه اليوم، وسترونه، ثم صور حالهم في عدم تفكيرهم فقال سبحانه:
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
(إِذْ) ظرف متعلق بقوله تعالى: (لَمَسَّكُمْ)، لمسكم العذاب العظيم في القول (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) تتلقون هذا الإفك من الألسنة، وترددونه من غير علم ولا تثبت، واقتران المس بزمنه، ينبئ عن أن هذا الذي كان في الظرف، أو كان الظرف وعاء له، عن أنه هو السبب لولا فضل الله ورحمته. ومعنى (تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ)، أي وسائل التلقي والعلم لم تكن معاينة ولكن هي الألسنة، وتقولونه مرددين ما سمعتم بأفواهكم، ولم تؤمن به قلوبكم، ولم تعاينوه وتروه، بل انتقلت الكلمات من الألسنة ورددتها الأفواه من غير علم أو تثبت، فالألسنة قالته من غير علم، ورددته الأفواه من غير علم، واتخذوه سمرا، يرطبون فيه المجالس بالإثم من غير علم، ظنا منهم أنه هين لَا أثر له، ولا إثم فيه، وأن التفكه بهذا القول هو أمر هين، (وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) وذكر اسم الله تعالى توهينا لزعمهم، وبيان عظم الإثم، وفيه توبيخ شديد لهم، فليس ما ارتكبوه هنة صغيرة بل هو جريمة كبيرة

الصفحة 5160