كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 10)

والنعمة الثانية ذكرها إبراهيم بقوله تعالى كما حكى اللَّه تعالى عنه،
(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
هذه نعمة أخرى من مظاهر الربوبية العالية، وهي أنه يطعم عباده، أي أنه سبحانه وتعالى هيأ لهم أسباب الطعام وأسباب الشراب، فطعام الإنسان لحم شهي، أو سمك طري، أو خبز، أو ثمر جني، وكل ذلك من اللَّه، فهو الذي أنبت النبات، وأثمر الغراس، وتغذى من النبات الأنعام، وهو سبحانه الذي خلق الأنهار والبحار التي تعيش فيها الأسماك، وهو الذي ينزل الأمطار فيشرب منها الإنسان والحيوان، وهكذا هو الذي يطعم ويسقي، بتضافر الأسباب سببا بعد سبب.
والنعمة الثالثة نعمة الشفاء من المرض، وحكى اللَّه تعالى فيها قول إبراهيم
(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
وقد ذكر المرض وشفاء اللَّه تعالى منه بعد الطعام والسقي للإشارة إلى أن بعض الأمراض سببها الإفراط في الطعام، كما ورد في بعض الآثار: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء. ومهما يكن من الطب والعلاج فالشفاء دائما من اللَّه واهب القوى، والقادر على كل شيء، وكثيرا ما يقول الطبيب وقد عجز: إن الشفاء بمعجزة، ويفوض الأمر إلى اللَّه تعالى القادر على كل شيء.
الأمر الرابع الذي تبدو فيه ربوبية اللَّه تعالى الكاملة
(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
هذا شعور قوى بكمال الربوبية من خليل اللَّه تعالى إبراهيم عليه السلام، فهو وحده الذي يميت، ولو كان الإنسان في بروج مشيدة، وللناس آجال، فإذا جاء أجلهم لَا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وإنه بعد الموت البعث، وهو الحياة الأخرى الجديرة بأن تكون الحياة حقا وصدقا، كما قال تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، وعطف بـ (ثُمَّ) في موضعها، لأن البعث لَا يكون عقب الموت، بل يكون بينهما تراخ في الزمن حسا ومعنى، أما الحس فظاهر، وأما المعنوي فهو التفاوت بين حياة لاغية مكدودة، وحياة بالنسبة لمثل خليل اللَّه تعالى حياة هادئة لَا لغوب فيها، بل هي جنات النعيم.

الصفحة 5368