كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 10)

الحال الخامسة هو ما يرجوه إبراهيم الذي كان في حياته أُمَّةً، كما يقول تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) وهو
(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
أي أنه يطمع ويسمى طلبه طمعا، استصغارا لحسناته، واستكبارا لسيئاته كشأن أهل الورع الذين يتقون ويخافون، وتستشعر نفوسهم الخوف دائما، كما كانت حال محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كان لعظيم مكانته يطلب رحمة اللَّه بالمغفرة لَا بالجزاء.
والخطيئة هي الذنب الذي يستغرق النفس، ويستولي عليها، وقد كان إبراهيم كسائر النبيين يحسب ذنبه كبيرا، وحسناته صغيرة، ويوم الدين هو يوم الحساب والجزاء.
ويتجه إبراهيم إلى ربه راجيا داعيا ضارعا قائلا:
(رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
ضرع إبراهيم إلى ربه فدعاه بما يدعو به الرجل الصالح الذي يريد أن يعاونه اللَّه تعالى في الخط المستقيم الذي يسلكه، فقال:
(رَبِّ هبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
اتجه إلى ربه جل جلاله مناديا بالربوبية لأنها هي التي توجه وتربى النفوس، وتجعل الرجل ربانيا، وأول ما طلبه هو الحكم، وهو الحكمة الضابطة المانعة للنفوس من التردي في مهاوي الهوى، ومنازع الشيطان، والحكيم هو الذي يمنع نفسه ويحكم عليها بالتزام الجادة وسواء السبيل، ولقد قال أكثم بن صيفي: الصمت حكم وقليل فاعله، ونسب بعض الناس ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن الرجل المستقيم مبتدئ بنفسه فيروضها على الحكمة النافعة المهذبة، فإذا امتلأ قلبه بها اتجه اتجاها مستقيما، ونطق بالحق، وسلك طريق الحق، فكان الخلق المستقيم، وكانت المعاملات المستقيمة، وكانت الاستقامة في كل حياته، وقد دعا إبراهيم أن يهبه اللَّه حكما، يكون أولا على نفسه، وقال: (وَأَلْحقْنِي بِالصَّالحينَ) أي وفقني لكل أسباب الكمال، والعلو في النفس والخلق لألحقَ بأهل الكَمال والصلاح وأُعَدَّ في زمرة الأبرار.

الصفحة 5369