كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 10)

والدعوة الثانية هي دعوة بالعاقبة، وهي قوله ضارعا إلى ربه:
(وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
الآخرين أي الذين يجيئون بعده، و (لِسَانَ صِدْقٍ) فيه إضافة اللسان للصدق أي بأن يكون الصدق مستغرقا له، بحيث لَا يقال عنه إلا ما هو صدق، وأن يكون اللسان صادقا دائما، وأن يمتد الصدق منه وفيه إلى ما بعده، وإن لسان الصدق يكون بعده يكون بأمور، منها أن يكون ذكره حسنا صادقا من بعده، بأن يكون أثرا محمودا من بعده، ويكون نافعا بعد مماته كما كان نافعا في حياته، ومنها أن تكون دعوته إلى الحق باقية من بعده يرددها الناس، ويدعون إليها، ومنها أن تكون له محبة ومودة بين الناس من بعده، كما كانوا يودونه فيِ حياته، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96).
هذا، وإن النص الكريم يدل على أن حب المحمدة بين الناس ليس أمرا غير صالح ما دام يقصد إليها النفع والخير، وعموم الإصلاح وما دام لَا يتعالى ولا يستطيل على الناس.
والدعوة الثالثة، هي ما ذكرنا بقوله:
(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
أي اجعلني في جنة النعيم، وعبر بهذا التعبير للإشارة إلى أن جنة النعيمَ تكون ميراثا للعمل الصالح، وطلبها من اللَّه تعالى مع أنه عمل عملا صالحا، للإشارة إلى أن عمله لَا يعطيه ذلك الحق إنما هبة من اللَّه تعالى ومنَّة وفضلًا، فلا يستحق عامل بعمله إلا أن يتغمده اللَّه برحمته.
بعد ذلك اتجه إلى ربه بالدعاء يصلح به نفسه، اتجه إلى ربه في شأن أبيه وقد وعده بأن يدعو له، كما جاء في سورة مريم: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)، أنجز خليل اللَّه وعده، وقال ضارعا إلى ربه:
(وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
طلب ذلك من اللَّه، ولكنه لم يصر عليه، وإن كان قد أنجز وعده، ولكن تبرأ من هذا الاستغفار، كما قال في آية أخرى، (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114).
هذه الدعوات كلها مطالب من إبراهيم الخليل المخلص إلى ربه، وهي مطالب إيجابية، اتجه بعد ذلك إلى مطالب سلبية مانعة، فقال عليه السلام:

الصفحة 5370