كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 10)

(فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
الفاء أيضا للإفصاح لأنها سدت عليهم كل منافذ النجاة، فتمنوا رجعة إلى الدنيا كرة أخرى يؤمنون فيها، ويدركون الحق ويذعنون له، (لو) هنا للتمني، وهو تمني أن يعودوا إلى الدنيا كرة أخرى، والفاء فاء السببية، وأن مضمرة بعدها، أي فنكون بسبب ذلك من المؤمنين المذعنين للحق الذين لَا يمارون فيه.
كان الكلام في يوم الآخرة عندما قال عليه السلام يوم لَا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللَّه بقلب سليم، ولقد أشار سبحانه من بعد ذلك إلى تتمة القصة، فقال سبحانه:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
الإشارة إلى قصص إبراهيم، وما جاء فيها على لسان إبراهيم من بيان فضل الربوبية، والإذعان لحقها، وقد جاء في البيضاوي تلك العبارات المدركة في بيان معنى (لآية) لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير، ويتبعه المتأمل فيها لغزارة علمه، لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها، وحسن دعوته للقوم، وحسن مخالفته معهم وكمال إشفاقه عليهم، وتصور الأمر في نفسه وإطلاق الوعد، والوعيد على سبيل الحكاية؛ تعريضا وإيقاظا لهم ليكون أدعى للاستماع والقبول.
ومع هذه الحجة الباهرة، والوصايا التي تقنع بذاتها، وتلزم بحقيقتها، كان أكثرهم غير مؤمنين، ولذا قال: (وَمَا كَانَ أَكثَرُهُم) وإذا كان الأكثرون غير مؤمنين، فمعنى ذلك أن المؤمنين كانوا الأقل عددا؛ وذلك لأن الشيطان يتحكم في الكثرة، ويعاون أهل الشر بعضهم بعضا.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
الغالب الرحيم مع أنه القادر القاهر على كل شيء هو الرحيم وكان رحيما بهم في أنه لم يعجل بالعذاب، بل أمهل أهل الشر حتى يكون اليوم، وكان رحيما بهم في أنه لم يسو الصحيح بالسقيم والمحسن بالمسيء، وكان رحيما بهم في أن وضع عذابا للمجرمين، لكيلا يوغلوا في إجرامهم، ففي هذا الوصف بالرحمة إنذار وتبشير؛ لأن العالم لَا يقوم على المساواة بين الخير والشر، ولكل موضعه.
* * *

الصفحة 5375