كتاب زهرة التفاسير (اسم الجزء: 1)

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) " إيَّا " ضمير منفصل أصله بمقتضى السياق العادي " نعبدك " فلما قدم الضمير انفصل، و " الكاف " حرف للدلالة على الخطاب، كما أن " الهاء " للدلالة على الغيبة في قوله: " إياه "، و " الياء " دلالة على المتكلم، و " إيانا " دلالة على المتكلمين، وهكذا. وقيل إن " الكاف " وأخواتها أجزاء من الضمير، وهو اختلاف إعرابي لَا جدوى فيه في مقامنا هذا. والعبادة أكمل أنواع الخضوغ، والتذلل لله تعالى، ولا تكون لغير الله تعالى، فهو وحده المعبود بحق، فلا يعبد سواه، وإن دوام العبادة والاستمرار عليها مع القيام بحقها من خشوع وخضوع لله وتذكر مقام الله العلي الأعلى، وحضور لذاته العلية كأنه يرى الله تعالى، مع الإحساس بأنه - سبحانه - يراه.
إن دوام العبادة على هذا النحو تولِّد في نفسه صدق العبودية، فيحس في كل أحواله بأنه لله، ويحب الشيء لَا يحبه إلا لله، ويكون ربانيا، مستجيبا لأمر الله: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ. . .).
والاستعانة طلبُ العون من الله تعالى، مستحضرا ما في الذات العلية من صفات الربوبية، والرحمة، والسلطان المطلق يوم الجزاء؛ إذ لَا سلطان في يوم الدين لأحد سواه، وقد جاء (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) قبل (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؛ لأن العبادة حق الله تعالى، والتقدم إليه بالخضوع الذي لَا خضوع مثله، والاستعانة حق العبد أو طلبه العون له، فما هو حق أوثق وأولى بالتقديم، ولكن يجب أن نلاحظ أن الاستعانة والضراعة إلى الله تعالى، وإفراده سبحانه بطلب العون منه سبحانه هو عبادة أيضا، كما هو طلب من الله؛ لأن الدعاء المخلص لله تعالى هو عبادة في حد ذاته، حتى رُوى: " الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ " (¬1)، وكما قال تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضرُّعًا
¬________
(¬1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الدعوات (3371) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

الصفحة 64