كتاب الإشارة في معرفة الأصول والوجازة في معنى الدليل

وكان أبو الوليد الباجي يقول بظاهر لفظ الحديث بأنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كتب بيده: (هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ... )، الأمر الذي أثار استياء علماء وفقهاء مدينة (دانية) وعلى رأسهم أبو بكر بن الصائغ (١)، فأنكروا إجازته الكتابة على النبي الأمي، وكفَّروه بتكذيب القرآن الكريم، فهوَّلوا أمره، وأخذت هذه المسألة طابع الفتنة، وقبَّحوا عند العامة ما أتى به، ورموه بإرادته التمييز عن غيره قصد الإكرام والعطاء تملُّقًا للولاة والأمراء، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حيث أجازوا لأنفسهم إطلاق اللمعنة عليه والتَّبرُؤ منه كما يظهر ذلك جليًّا في أشعارهم التي تناولها بعض خطبائهم في الجُمع وفوق المنابر، تشنيعًا به، حيث يقول عبد الله بن هند الشاعر:
بَرِئْتُ مِمَّنْ شَرَى دُنْيَا بِآخِرَةٍ ... وقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ كَتَبَا (٢)
وإثر ذلك قام الناس بشكايته إلى أمير دانية، حيث جَمَعَ هذا الأخير في مجلسه الخصم المخالف المشكل من فقهاء إمارته بأبي الوليد الباجي لإقامة مناظرة علمية حول هذا الموضوع ليتبيَّن الأمر ويستظهر الحق ويطلع على أدلة كل فريق فاحتجوا عليه بقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (٣).
على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أُمِّيًّا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب (٤)، إذ لو كان ممن يقرأ كتابًا، ويخط حروفًا لارتاب المبطلون من أهل الكتاب لأن في كتبهم
---------------
(١) ترتيب المدارك للقاضي عياض: ٢/ ٨٢٧.
(٢) المصدر السابق: ٢/ ٨٠٥. فوات الوفيات للكتبي: ٢/ ٦٥. سير أعلام النبلاء للذهبي: ١٨/ ٥٤٠. المرقبة العليا للنباهي: ٢٠٢. طبقات المفسيرين للداودي: ١/ ٢١١ - ٢١٢. شذرات الذهب لابن العماد: ٣/ ٣٤٥. فتح الباري لابن حجر: ٧/ ٥٠٣.
(٣) آية ٤٨ من سورة العنكبوت.
(٤) أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان: ٢١/ ٤ من حديث ابن عباس، وأخرجه عنه أيضًا ابن أبي حاتم وابن مردويه والإسماعيلي في معجمه (انظر فتح القدير للشوكاني: ٤/ ٢٠٨).

الصفحة 110