كتاب الإشارة في معرفة الأصول والوجازة في معنى الدليل

الخروج عن طاعة الإمام ولو كان جائرًا ظالمًا ما لم تكن طاعته في معصية الله تعالى، لا سيما مع إمكانية تصويب الإمام في انزلاقاته والصدع بالحق أمامه.
وقد كان الباجي على بصيرة فيما هو فيه، ويمكن أن نلتمس نظرته لهذا الموضوع من خلال ما أورده أبو العرب عبد الوهاب البقساني بسنده إلى القاضي أبي الوليد الباجي أنه كان يقول، وقد ذكرت له صحبة السلطان: (لولا السلطان لنقلتني الذرُّ من الظل إلى الشمس، أو ما هذا معناه) (١)، ومن خلال وصيته لولديه - أيضًا - حيث جاء فيها: (واجتنبا صحبة السلطان ما استطعتما أو تحريا البُعد منه ما أمكنكما، فإنَّ البعد عنه أفضل من العز بالقرب منه، فإن صاحب السلطان خائف لا يَأمن، وخائن لا يُؤمَن، ومسيء إن أحسن، يخاف منه، ويخاف بسببه، ويتهمه الناس من أجله، إن قرب فتن، وإن أبعد أحزن، يحسدك الصديق على رضاه إذا رضي، ويتبرأ منك ولدك ووالدك إذا سخط، ويكثر لائموك إذا منع، ويقل شاكروك إذا شبع، فهذه حال السلامة معه، ولا سبيل إلى السلامة ممن يأتي بعده، فإن امتحن أحدكما بصحبته، أو دعته إلى ذلك ضرورة فليتقلل من المال والحال، ولا يغتب عنده أحدًا، ولا يطالب عنده بشرًا، ولا يعصِ له في المعروف أمرًا، ولا يستنزله إلى معصية الله تعالى، فإنه يطلبه بمثلها، ويصير عنده من أهلها، وإن حظى بمثلها في الظاهر فإن نفسه تمقته في الباطن). هذه خلاصة تجربته في صلته بالحكام وزبدة خبرته.
عاش أبو الوليد حينًا في بلاط (ميورقة) بعد استجابته لدعوة الميورقيين لمناظرة ابن حزم، وحينًا (بسرقسطة) عندما استدعاه المقتدر بالله أبو جعفر أحمد ابن سليمان بن هود بعد توليته الحكم بها (٢)، وحينًا آخر (ببطليوس) عند المتوكل بالله عمر بن محمد آخر حكام بني الأفطس.
ونزل أبو الوليد الباجي بدعوة من المقتدر بالله بأفخم قصور ملوك الطوائف
---------------
(١) نفح الطيب للمقري: ٢/ ٧٣.
(٢) دول الطوائف لعنان: ٤٣٣.

الصفحة 117