كتاب الإشارة في معرفة الأصول والوجازة في معنى الدليل
بين الملوك في إنشاء المكتبات وتعميرها الأمر الذي جعل البلاد تعج بمختلف العلوم والأدب والفنون (١) مما سهَّل انتعاش الحركة العلمية والأدبية بنشاط حثيث يتجلى في: وفرة المصادر وكثرة المؤلفات في شتى العلوم، تعدد الرحلات العلمية إلى المشرق قصد التحصيل العلمي، تشجيع المناظرات والمساجلات بين العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء، فضلًا عن تنقلات العلماء إلى مختلف حواضر الأندلس لنشر علومهم وبث معرفتهم.
هذا، وقد كان القرن الخامس الهجري حافلًا بنشاط علمي حر ومتفتِّح وأدب رفيع، وجدل فقهي نشيط، لمعت فيه قمم علمية موسوعية فذة كأبي محمد ابن حزم، وأبي الوليد الباجي، وأبي عمر يوسف بن عبد البر، وأبو الحسن علي بن سيده وغيرهم الذين يرتفعون إلى الذروة في تفكيرهم ومستواهم العلمي الرفيِع.
حاصل القول: إن تجزئة بلاد الأندلس إلى إمارات متناحرة كان له مساوي عديدةٌ قضت على تماسك المسلمين ووحدتهم السياسية والعسكرية، وخلَّفت آثارًا في غاية الخطورة، ووجدت العصبيات والأهواء والمجون والفساد سبيلًا مفتوحًا للعبث بالمقدسات العقائدية والمقومات الإسلامية نتيجة لضعف الوارع الديني، رغم المحاولات الجادة التي قام بها رجال الفكر والعلم - تجاوبًا مع الوضع السياسي والاجتماعي - في سبيل توحيد كلمتهم وتحذيرهم من العواقب، ولكنها لم تجد آذانًا صاغية، ومع ذلك، فإن موانع الظلم السياسي والفساد الأخلاقي لم يثنِ العلماء في بذل جهود مضنية، وإفراغ طاقات متأججة لتحصيل العلوم وتطويرها في حركة مستمرة، ونشاط دؤوب تحت رعاية حكامهم وحرص عامتهم، ومن هؤلاء الأئمة الأفذاذ القاضي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي الذي لمع نجمه في هذه الحقبة من الزمان كفقيه أصولي، مناظر مجادل لا يشق له غبار.
---------------
(١) تاريخ الفكر الأندلسي لبالنثيا ١٣.
الصفحة 24
405