كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 1)

(دَرْوَشة) في تفييم الرجال والحكم عليهم، وإنما الصواب أن يقال: إنه رجل مثقف
مؤسس، واسع الاطلأع، غزير الرواية، سريع اللمح، ذكي اللسان.
وكذلك لم يُنصف الشيخ من يقول عنه: إنه وُهب حسن العرض، والقدرة على
توصيل المعلومات، مع خفة طل واضحة. فهذا من الدس الخفي، فإذا كانت
البضاعة مزجاة فماذا يجدي حسن عرضها؟ كما قيل في أمثالنا العامية: " إيش تعمل
الماشطة في الوش العكر؟ "، وللناس في اصطناع وسائل الذم والتنقص دبيب
وخداع، وهو ما قاله سادتنا البلاغيون: تأكيد الذم بما يشبه المدح.
وإن تعجب فعجب أن بعض مثقفينا وأدبائنا يُعرض عن الاستماع إلى الشيخ،
لاجتماع العامة عليه، وانبهارهم به، وهذا خَلْف من الرأي وفساد في الحكم، فما
ينبغي ان يكون إقبال العامة على الشيخ وإعجابهم به صارفاً للخاصة عن الأخذ عنه
والِإفادة منه، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها، وقد كانت العامة تصرخ
ويغشى عليها في مجلس وعظ الِإمام أبي الفرج ابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ
ولم يصرف هذا الخاصة عن الِإفادة منه والأخذ عنه، بل إن كتبه وتصانيفه تعد من
الأصول في الفكر العربي الِإسلامي، مثل زاد المسير، وتلقيج فهوم اهل الأثر،
وتلبيس إبليس، والمنتظم وغيرها.
يقول الرحالة ابن جبير، واصفاً مجلساً من مجالس ابن الجوزي، وقد حضره:
"ثم إنه بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ، واَيات بينات من الذكر، طارت لها
القلوب اشتياقاً، وذابت بها الأنفس احتراقاً، إلى ان علا الضجيج، وتردد بشهقاته
النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل
يلقى ناصيته بيده فيجزها، ويمسج على رأسه داعياً له، ومنهم من يُغشى عليه فيُرفع
في الأذرع إليه، فشاهدنا هولاً يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكرها هول يوم
القيامة. . . " رحلة ابن جبير ص 197، 198.
أرأيت أيها القارىء الكريم؟ هذا شبيه ونظير للشيخ الشعراوي منذ ما يزيد على
ئمانمائة عام، فلا تعجبن إذا رايت مستمعي الشيخ على شاشة التلفزيون، وهم بين
290

الصفحة 290