كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 1)
يونس بن حبيب: "ليس لعيي مروءة، ولا لمنقوص البيان بهاء، ولو حكّ بيافوخه
أعنان السماء"، راجع البيان والتبيين للجاحظ 1/ 77، ثم انظر مقالة الشيخ
عبد القاهر الجرجاني في فضل البيان، في دلائل الِإعجاز ص 5.
ووجوه الاحسان في تأدية المعاني كثيرة، ومنادحها واسعة، ولا يكاد يظفر بها
إلا من وهب لطافة الحس وخفة الروح ورحابة النفس، والارتياح والطرب لمظاهر
إبداع اللّه عزَّ وجل في هذا الكون، وما بثه في ملكوت السموات والأرض، وما اجراه
على ألسنة خلقه، أما " أهل الكثافة " وهم الذين امتحنهم الله بثقل الظل وركود الهواء،
فما أبعدهم عن البيان والِإحسان:
وهُلْك الفتى ألا يَراح إلى الندى وألا يرى شيئاً عجيبا فيعجبا
ثم إن هذه المواهب التي يمتن اللّه بها على من يشاء من عباده، لا بد لها لكي
تؤتي ثمارها عند الأدباء وارباب البيان، من طول دربة ومعالجة يأتيان بكثرة النظر في
الأساليب العالية الشريفة، من بديع الشعر وكريم النثر، ثم معاشرة الاصفياء اصحاب
الفطر السوية والطبائع النقية والفرار من مخالطة " اهل الكثافة "، فإن مجالسة الثفلاء
حمّى الروح كما قال بختيشوع بن جبريل للخليفة الماًمون، لطائف الظرفاء لأبي
منصور الثعالبي ص 70.
ونحن امةَ العرب أمة بيان وفصاحة، ولغتنا معينة على ذلك بما اوح فيها من
خصائص شعرية في الحروف والائنية والتراكيب، ثم هذه الثروة الهائلة من الأسماء
والأفعال، والمترادف والمشترك والأضداد، ولغتنا معينة أيضاً على البيان والفصاحة
بهذه القوانين الرحبة الواسعة من الحقيقة والمجاز، والسماحة في تبادل وظائف
الأبنية، كالذي يقال من مجيء فعيل بمعنى فاعل وبمعنى مفعول وبمعنى مُفْعِل،
وتبادل وظائف الِإفراد والتثنية والجمع ووقوع بعضها موقع بعض، والتساهل في
التعبير عن الأزمنة، كالتعبير عن الماضي بالمستقبل، وبالمستقبل عن الماضي، إذا
اقترن بالفعل ما يدل على زمانه، ووقوع بعض حروف الجر مكان بعض، وتذكير ما
حقه التأنيث وتأنيث ما حقه التذكير، والحمل على المعنى، والحمل على اللفظ،
347