كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 1)
وحرية التعامل مع الضمائر، غيبة وحضوراً فيما يعرف بالالتفات، والتعويل على
القرائن والسياق في تخليص الكلام من كثير من الفضول والزوائد، وهو باب الحذف
الذي يجعله ابن جني من باب "شجاعة العربية " وهو تعبير عجيب، انظر 5 في كتابه
الفذ: الخصائص 2/ 360، إلى سائر قوانين اللغة وأعرافها، حتى علم النحو الذي
يظن به العسر والتشدد، ولو تأملته حق التأمل لوجدت فيه كثيراً من الرخص
والِإباحة، على ما قاله الأصمعي: " من عرف كلام العرب لم يكد يلحن احداً".
ولقد تضوأت هذه اللغة العربية الشريفة على ألسنة الشعراء والخطباء، شعراً
شجي النغم، ونثراً حلو الوقع، فيما بقي لنا من أدب الجاهلية. ثم كان مجلى هذه
اللغة العزيزة كلام ربنا عر وجل، بما نزل به جبريل الأمين على خاتم الأنبياء
محمد بن عبد الله جمير، في هذا البيان الذي لا يطاوله بيان، ثم ألقى ربنا تباركت
أسماؤه على لسان نبيه المصطفى بيانأ عالياًاَخر، هو ما نطق به جمير من جوامع الكلم:
فصاحة صافية المورد، وبلاغة عذبة المشرع، ومنطقاً صائب الحجة.
وقد جرت لغتنا العربية بما حملته من أدب الجاهلية، وبيان الكتاب العزيز،
والحديث الشريف، على أقلام الكتاب وألسنة المتكلمين وقصائد الشعراء: بياناً
يأخذ منه الناس بما قدر لهم من رزق الله المقسم على خلقه، فتفاوتت حظوظهم في
ذلك، فمنهم من احسن، ومنهم من قارب، لكن البيان ظل هدفاً يسعى إليه، وغاية
يشتد الناس في طلبها، ومعياراً يلجأ إليه النفاد في الحكم على الكلام وإعطاء الأدباء
حقهم من التقديم والتأخير، ولعل اول من أضَل هذا الفن هو أديب العربية الكبير
أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، حين صنع كتابه الذي جعل عنوانه دالاَ بصريح
اللفظ على الغاية التي تغئاها منه، وكان كتاب الجاحظ هذا مع كتاب معاصره
والراوي عنه أبي محمد عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة "عيون الأخبار"، هما
الأساس الأول في إرساء قواعد هذا الفن "البيان" بذكر الأدوات الموصلة إليه
والمعينة عليه، من ذكر كلام العرب وخطبها وشعرها ومحاوراتها وأجوبتها
المسكتة، وتوالت الكتب في هذا الطريق، ككتب الأمالي والمجالس والمختارات
348