كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 1)

ولقد كان من حسن حظنا نحن أبناء هذا الجيل اننا فتحنا عيوننا وعقولنا في
اوائل الخمسينات، ورأينا الفاهرة قبل ان يدهمها السيل وتغشاها المحن والنوائب،
وكان من صنع اللّه لنا أننا نعمنا بثمرات دار الكتب المصرية: قراءة في قاعة المطالعة
الشهيرة بها، واستعارة باشتراك زهيد متاح لطلبة العلم. وأخذنا نتضلع بالقراءة
لتلاميذ مدرسة البعث والِإحياء المذكورة، وفيما يتصل بالبيان كان هناك اسمان
كبيران: مصطفى صادق الرافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وقد شق علينا
الرافعي في اول الأمر.
ووجدنا في المنفلوطي واحة خصبة عامرة بالندى والأزاهير، فأي جنة فتحها
لنا هذا المنفلوطي في ذلك الزمان؟ وكم دموع أراقها، وكم قلوب خففت على بيانه
الحلو الَاسر الذي انساب في "العبرات " و"الشاعر أوسيرانو دي برجراك "
و "الفضيلة" و"ماجدولين"، ولئن كنا قد فرغنا من المنفلوطي بعد حين، فإن اثره
الضخم الذي لا ينسى أنه حبب إلينا القراءة جملة، فإن هذه الليالي التي قضيناها مع
بيانه المعجب الأخاذ لم تضع سدى، لأنها وثقت صلاتنا بالأدب عامة وبالبيان خاصة.
ومن عجب أن المنفلوطي هو الذي ردنا إلى الرافعي، وعند هذا الرافعي وجدنا
دنيا أخرى حافلة بالغرائب والعجائب، لكن صورة الرافعي لم تأخذ حجمها الحقيقي
عندي إلا بعد أن اتصلت بتراث الاباء والأجداد فيما قرأت وفيما نسخت وفيما
حققت، وأيضأ حين توئقت علاقتي بصاحبه ووارث أدبه وعلمه ابي فهر محمود
محمد شاكر، فعرفت أن هذا من ذاك، وأنها ذرية بعضها من بعض، وإن كنت أرى
أن بيان أبي فهر لا يشبهه بيان، وأن علمه لا يقرن به علم، على ما فصلت في كلمتي
عن كتابه الماتع " المتنبي " في الجزء الأول من "موسوعة عصر التنوير" التي أصدرها
الهلال، ولو كتب أبو فهر الَان - وهو في هذه السن العالية - لزلزل الدنيا، ولرأيت
ثم نعيما وعلمأ كبيراً، فهل تستجيب يا أبا فهر؟ وهل انت مخرج ما عندك من "حديث
الأحرف السبعة " و" مداخل إعجاز القرآن " و"كتاب الشعر"، شرح الله لك صدرك،
وأمتع أهل الأدب ببقائك.
350

الصفحة 350