كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 1)

البيان، كنت تفرا لهم في الصحيفة اليومية والمجلة الأسبوعية، ثم كنت تراهم في
فصول المدارس الابتدائية والثانوية، يروضون صغار التلاميذ على البيان، ويجمعون
لهم "عناصر موضوع الِإنشاء" الذي صار الان "التعبير" ولا تعبير هناك ولا عبارة، ثم
كانوا يخوضون بهم لجج بحار الشعر والنثر فيما كان يعرف بالمحفوظات والمطالعة.
حسن البيان:
وقد ذهبت تلك الأيام بحلاوتها ونضارتها وصرنا إلى هذا الزمان الذي زهد
الناس فيه في حسن البيان، وهجروا طريفه هجراً يوشك ان يكون تاماً، وأصبحت
اساليب كثير من الكتاب، ومن ينتسبون إلى الأدب الان تدور في فلك الفاظ مستهلكة
تشبه العملة المعدنية الممسوحة، او العملة الورقية التي تهرَّأت أطرافها من كثرة ما
تداولتها الأيدي، او كالعملة الزائفة التي ليس لها رصيد في مصرف النفس، وإنما
هي الفاظ وتراكيب تُسَوَّد بها الصحف، تروح وتجيء، تتجاوزها عينك على عجل،
لا تفف عندها، لأنك لا تجد فيها إمتاعاً، ولا تحس معها أنساً، فضلاً عما تجده في
بعضها من ثقل وغثائة، تكاد تطبق على القلب وتسد مجرى النفس -وما أمر
" الزخم " منك ببعيد - إلى هذه البلية المستحدثة، وهي بلية الغموض الذي يندفع فيه
كثير من الأدباء الان، وليس هو الغموض الذي يحرك النفَس لتستخرج بحسن التأمل
خبيء الكلام ومطوي المشاعر، ولكنه الغموض المظلم الذي يكد العفل، ويكون
مجلبة للغم والكآبة، غموض العجز والحيرة.
وهذه الألفاظ والتراكيب التي يستعملها بعض أدباء هذا الزمان، أشبه بتقاليع
(الموضة) تظهر ثم تختفي، لا تعرف ثباتاَ ولا استفراراً، ففد كنا نسمع في الستينات
-كما ذكرت في مقال سابق بالهلال - الوحدة الموضوعية، والمعاناة، وعمق
التجربة والخلق وتراسل الحواس، والمونولوج الداخلي، والدفقة الشعورية،
والتعبير بالصورة، والألفاظ الموحية، والشعر المهموس. والان نسمع: الِإبداع
وتكثيف التجربة، والزخم (والعياذ باللّه) والطرح، والمنظومة والِإشكالية والتناص
والتماهي والتفجير والتفكيك. . . وهذا واشباهه إنما هو كما قال ابن قتيبة منذ
352

الصفحة 352