كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 1)

ولا أظن أنه سيأتي يوم لا يطرب الناس فيه لصوت الشيخ مصطفى إسماعيل
وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، إن الأنغام متوارثة في الأنفس، والجمال مصون في
تلافيف القلوب، والطرب مركوز في الطباع، فلا يخدعنك عن الحق غلبة الباطل،
ولا يزهدنك في الطيب كثرة الخبيث.
ثم اعود بك أيها القارىء الكريم إلى اسباب محنتنا فيما نكتب وفيما نقول،
وقد جمعت لك أسباباً شتى، ولعلك جامع إليها أسباباً أخرى بصائب نظرك، وحسن
تأتيك، وتهذَيك إلى ما لم أهتد إليه:
أولاً: ذهاب الكبار بالموت أو بالملل أو بالمصانعة: والموت لا مردَ له ولا
حيلة فيه، وبموت الكبار يضيع الصغار ويذهب العلم، أخرج البخاري عن
عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول اللّه! لمجيم يقول: "إن اللّه لا يقبض
العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكنْ تقْبِضُ العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْق
عالماًاتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتَوْا بغير علم فضالُوا وأض! وا"، صحيج
البخاري (باب كيف يقبض العلم، من كتاب العلم) 1/ 36.
اما الملل فهو من كواذب الأخلاق، كما جاء عن عمرو بن العاص رضي اللّه
عنه، على أن بعض كبار ادبائنا معذورون فيما دفعوا إليه من الملل، لما يرونه من
فساد لم ينشأوا عليه، ولما حاق بهم من أذى أضيروا منه.
وأما المصانعة فهي داء خبيث، لا معذرة له ولا مسامحة فط، وبالمصانعة
هذه خاض بعض كبارنا فيما يهزل به مدَعو الأدب والحداثة، وكأن هؤلاء الكبار
خشوا على انفسهم آفة النسيان، وأرادوا أن يكونوا ظاهرين في الأرض، وكأنهم
يقولون: لأن نكون في جلبة الأضواء خير من ان نكون في صمت الظلام، وهم
يعلمون في دخيلة أنفسهم ان هذه الأضواء خادعة، وأن مدها منقطع، لأن مُوثَدها
ضعيف، ولا ينقضي عجبي من بعض هؤلاء الكبار، وهم من تلاميذ طه حسين
وامين الخولي واحمد أمين ومصطفى السقا وإبراهيم انيس، وبقية هذا الجيل
العظيم، كيف يسكتون على هذا العبث، بل كيف يتعاملون معه ويحضرونه
356

الصفحة 356