كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 1)

ويقدَمونه، بل ويدافعون عنه، وهم يعلمون باليقين الذي لا يدخله شك أنه لا طائل
تحته ولا غناء فيه.
ئانياً: قلة المحصول اللغوي عند الكتاب: والقلة تغري بالقلة، والفقر يقود
إلى الفقر (وهذا كلام موزون وقع لي اتفاقاً من غير قصد كما ترى)، ولو تأملت ما
يكتبه كثير من الأدباء الَان لوجدته يدور حول طائفة محدودة من أبنية الأسماء
والأفعال والحروف، مع العجز عن تحريكها والتصرف فيها وفق قوانين العربية التي
حدثتك عنها في المقال السابق، وإنما هي أبنية وأدوات ترص رصأ، بلا دم ولا
روح، وكأنها الدمى، وكأن ذلك الأديب يكتب بلغة أجنبية ليس له بها أنس، ولا
يشده إليها تاريخ وموروث.
وليس يخفى أن قلة المحصول اللغوي والعجز عن التصرف في الكلام إنما
يرجعان إلى قلة الفراءة وضعف الزاد، فالأديب لكي يكتب أدباَ عالياً جميلاَ لا بد أ ن
يكون على صلة لا تنقطع بالفراءة، وأن يجعل من يومه نصيباَ مفروضاً للمراجعة
والاستزادة، فالِإبداع - كما يقال في هذه الأيام - لا بد له من مدد، والمدد ليس له
إلا طريق واحد، هو القراءة الرشيدة المستمرة، ثم التأمل.
وتقرأ في كتب التراجم والطبقات أن العالم الفلاني صنف الكتاب الفلاني
بعدأن قرأ له كذا كتاباً، فالصالحي الشامي المتوفى سنة 942، يذكر أنه ألف
كتابه "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" من أكثر من ثلاثمائة كتاب،
وروى عن إمام الحرمين الجويني المتوفى سنة 478، انه قال: "ما تكلصت في
علم الكلام كلمة حتى حفظت من كلام القاضي أبي بكر وحده اثني عشر ألف
ورقة "، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 5/ 185، وأبو بكر في هذا النص هو
محمدبن الطيب الباقلاني، من كبار المتكلمين الأشاعرة، وصاحب "إعجاز
الفراَن "، فهذا أثر القاضي أبي بكر وحده في محفوظ إمام الحرمين، فكيف يكون اثر
العلماء الَاخرين؟
357

الصفحة 357