كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 2)
ومن اقدم ما عُرف من صور الِإنصاف في تاريخنا الأدبي، ما يسمى في تاريخ
الشعر بالمنصفات، ويسميها الجاحظ "الاشعار المنصفة " البيان والتبيين 23/ 4.
والأشعار المنصفة: " هي القصائد التي أنصف قائلوها أعداءهم فيها، وصدقوا عنهم
وعن أنفسهم فيما اصطلَوْه من حَز اللقاء، وفيما وصفوه من أحوالهم في إمحاض
الِإخاء"، خزانة الأدب للبغدادي 8/ 327.
فالشاعر المنتصر لا يغره انتصاره فينسيه ما رآه من عدوه من بسالة في الطعن
والضرب والرمي، فهو يزهو بانتصاره، لكنه يعترف لعدوه بالثبات والجلد، وهذا هو
خلق الفرسان، وقد جمع الأستاذ عبد المعين الملوحي ست قصائد من هذه الاشعار
المنصفة، ثم ضم إليها بعض المقطوعات الشعرية في الِإنصاف، وقدم لذلك كله
بشيء من الدراسة التحليلية لهذا اللون من الشعر العربي، وقد صدر هذا العمل عن
وزارة الثقافة والسياحة والِإرشاد القومي بدمشق 1967 م.
أما الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الصواب ففي تاريخنا منه الكثير مكتوباً في
أخبار، وممارساً في وقائع، واكتفي هنا بخبرين من تاريخ الخليفة الراشد عمر بن
الخطاب رضي اللّه عنه: الأول من رسالته الشهيرة في القضاء التي بعث بها إلى
ابي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو على قضاء البصرة، وفيها يقول:
"لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك، أن ترجع
إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل "، الكامل
للمبرد 1/ 20.
فهذا خبر عن عمر، في الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الصواب، ثم تأتي
ممارسة عمر نفسه تصديقاً له في ذلك الخبر الذي يرويه المفسرون في سياف تفسير
الاية 20 من سورة النساء، واصحاب السنن في أبواب النكاح. ففد روي ان عمر
خطب يوماً فقال: " لا تغالوا صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى
عند الله، كان اولاكم واحقكم بها محمد -! ي!، ما اصدف امراة من نسائه ولا اُصدقت
امراة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليُثقل صدُقة امراته - اي مهرها-
414