كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 2)
فهذا محدث فنان. ومما يشاكل هذا الباب ما رواه الذهبي ايضا، عن علي بن
حرب الطائي المتوفى (265 هـ) قال: سمعت أبي يفول: أحب ان تكون لي جارية
في غُنج سفيان بن عيينة إذا حدث "، سير اعلام النبلاء 8/ 4 0 4 (والغنج في المرأة:
حسنها وتدللها وترققها في الكلام).
ومثل هذه الأخبار ينبغي ان تفهم على حقيقتها، وهي أن القوم الذين كانوا
يروون حديث رسول الله بمتًي!، كانوا يروونه بانبساط نفس، وانشراح صدر (يعني في
تعبيراتنا المصرية: يروونه بمزاج)، اما الورع الكاذب، والخشوع المصطنع فلا
وجود له في عقيدتنا ولا في حضارتنا، واقرأ إن شئت كتاباَ واحداَ في آداب وأعراف
التحديث بحديث رسول الثه عتَي! وهو كتاب "أدب الِإملاء والاستملاء" لأبي سعد
السمعاني المتوفى (562 هـ) وتأمل على سبيل المثال ما يذكره عن وجوب نظافة
المحدث وحسن ثيابه وتطيبه بالعطور حين يجلس لِإملاء الحديث، وما نقله عن
علماء الحديث من التعوذ من الثقل والثقلاء.
وهذه صورة من صور الصدق مع النفس، تسجلها كتب التاريخ والأدب،
مع ان هذه الصور تجري في ذرائع الشر ومكروه الأخلاق، لأن هذه الكتب
وثائق تسجل واقع البشر، فهي لا تنتقي من الأخبار ما يرضي الناس فحسب،
وتحجب عنهم ما يسوؤهم، إن كتبنا في التاريخ وسائر المعارف شهود صدق وقضاة
عدل.
فهذا "دُوَيد بن زيد بن نَهد" معمر جاهلي قديم، وشعره من قديم الشعر
العربي، تقول كتب التاريخ والأدب: إنه جمع أولاده عند موته، ثم قال لهم:
" أوصيكم بالناس شرّاً، لا تقبلوا لهم معذرة، ولا تقيلوهم عثرة، أوصيكم بالناس
شراً، طعناً وضرباَ، وما احتجتم إليه فصونوه، وما استغنيتم عنه فأفسدوه على من
سواكم، فإن غش الناس يدعو إلى سوء الظن، وسوء الظن يدعو إلى الاحتراس ".
راجع أيها القارىء العزيز كتاب المعمَرين لأبي حاتم السجستاني ص 26، وطبقات
فحول الشعراء لابن سلام ص 31، وأمالي الشريف المرتضى 1/ 236.
423