كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 1)

ويرسم ابن السبكي المعلم للمدرس منهجاً تربويّاً راشداً حين يقول: "وحق
عليه أن يحسن إلقاء الدرس وتفهيمه للحاضرين، ثم إن كانوا مبتدئين فلا يلقي
عليهم ما لا يناسبهم من المشكلات، بل يدربهم ويأخذهم بالأهون فالأهون، إلى
أن ينتهوا إلى درجة التحفيق، وإن كانوا منتهين فلا يلفي عليهم الواضحات، بل
يدخل بهم في المشكلات ". وتتجلى دعوة صاحبنا الِإصلاحية في أيهى صورها
حين يأسى للفلاح الذي يستهلك في السخرة والِإقطاع. فحين يتكلم عن منصب
ناظر الجيش وتحديد اختصاصاته يقول: "ومن قبائح ديوان الجيش إلزامهم
الفلاحين في الِإقطاعات بالفلاحة، والفلاح حر، لا يد لَادمي عليه، وهو أمير
نفسه ".
وبعد. . . ألا تعتقد معي أيها القارىء الكريم أن هذا الرجل إنما يتكلم بلغة
عصرنا، كمصلح اجتماعي، وكعالم نفساني، بصير بالنفس الانسانية، عالم
بضعفها.
وكان طبيعيّاً بعد هذا النقد المر الجارح لنظام الحكم وأخلاق الناس أن تتعرض
حياة الرجل ومصير اسرته للزوابع والأعاصير، فيعزل عن منصب القضاء، لأسباب
واهية ذكرها الحافط ابن حجر في "الدرر الكامنة " وتُجرى له محاكمة، يحكم عليه
فيها بالحبس سنة. ولكن هل ضعف ابن السبكي، أو تخاذل؟ استمع إلى معاصره
الحافط ابن كثير يقول: "جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله،
وحصل له من المناصب والرياسة ما لم يحصل لأحد قبله، وابان في أيام محنته عن
شجاعة وقوة على المناظرة، حتى أفحم خصومه، ثم لما عاد عفا عنهم، وصفح عمن
قام عليه ".
وبعد هذه الحياة الخصبة الزاخرة بالعلم والِإصلاح انطفأت هذه الشعلة التي
توهَجت عبر أربع واربعين سنة. وحق لابن السبكي ان يقول في زهو ورضا، في
ورقة كتبها إلى نائب الشام: "وانا اليوم مجتهد الدنيا على الِإطلاق، لا يقدر أحد يرد
علي هذه الكلمة ".
51

الصفحة 51