كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 2)

له لنظر في كتبه وصار بذلك إنساناً يا أبا القاسم، فكتب الجاحظ تعلم العقل أولاً
والأدب ثانياَ، فلم أستصلحه لذلك "، وفيات الأعيان 3/ 473.
وهذا كلام عال نفيس، فكتب الجاحظ تعلم العقل قبل الأدب، وقد اخذ من
ذلك الأستاذ شفيق جبري عنوان كتابه: "الجاحظ معلم العقل والأدب "، وكذلك
تعلم العقل كتب أصحاب البيان الَاخرين، مثل أبي حيان التوحيدي، الذي يقول عنه
الدكتور زكي نجيب محمود: "إنه يعمق بالفكرة ويزخرف باللفط "، ولكن كئيراَ من
نقادنا المحدثين قد اصطنعوا فجوة بين الفكر والبيان، واقاموا حجازاَ عاليأ بين قضايا
العقل والِإحسان في تأدية المعاني والِإبانة عنها، وقد تسلل هذا الفصل إلى عقول
الناشئة فيما يقدم إليهم من الفرق بين الأسلوب العلمي والأسلوب الأدبي.
ومن ثم فقد حكم هؤلاء النقاد على مصطفى صادق الرافعي ومحمود محمد
شاكر، وإبراهيم عبد القادر المازني، ومن إليهم من المحسنين في الأداء، المجيدين
في طرائق الكلام، بأنهم بمعزل عن الفكر، وأن بضاعتهم لا تخرج عن الزخرف من
القول، والموشى من الكلام. ولعل هذا أحد اسباب الغموض والظلام الذي يشيع في
كتابات بعض الأدباء الان. وقد امتد هذا البلاء إلى مجال الغناء والطرب، فأصبحنا
نسمع عن الفرق بين " المؤدي " و" المطرب " وإعلاء شأن المؤدي، والِإزراء
بالمطرب، لأن المؤدي هو الذي يلتزم باللحن، ولو كان صوته خشنا غليظاً منكرأ،
وان المطرب مردد، ولو ظفر من حلاوة الصوت بأوفر الحظ والنصيب! وبالنّه نستدفع
البلايا! (إنتوا عاوزين تعملوا فينا إيه يا جماعة؟ حرمتونا من حلاوة الكلام، والَان
تحرمونا من حلاوة الصوت).
وقد عرض الجاحظ في كتابه لقضايا من اللغة، فتحدث عن مخارج الحروف،
وأثر اكتمال الأسنان أو نقصها في البيان، وأثر لحم اللثة في النطق، وذكر الحروف
التي تدخلها اللثغة، واي اللثغة أشنع وأيها أظرف. وذكر لكل ذلك المثل والمثلين.
وقد اشار إلى طريف من لغة الأطفال، فقال: " والميم والباء أول ما يتهيأ في أفواه
الأطفال، كقولهم: ماما وبابا"، البيان والتبيين 1/ 62.
529

الصفحة 529