كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 2)

به، من حيث التحقيق والتوثيق وحسن الاخراج، فلم تكن مناهج تحقيق النصوص قد
استقرت، ولم تكن وسائل الطباعة الحديثة قد عُرفت، ومع كل ذلك فقد اقام هذا
الكتاب "المطبوع" المحدود، الساذج في إخراجه، حضارة سامقة، اضاءت ديار
العرب والِإسلام كلها، وما أشبه أدباء ذلك الزمان إلا بتاجر صنع، بيده رأس مال!
محدود، ولكنه استطاع بلباقته وحسن تأتيه ان يحرك هذا المال! المحدود، ويغدو به
ويروح، ليصنع منه ثروة ضخمة.
كان هذا هو طريق الجارم وأدباء زمانه، اخلصوا أيامهم للقراءة والتحصيل،
ووعت ذاكرتهم هذه النغمات الجليلة التي حملها بديع الشعر وكريم النثر، في
موروثنا الحافل. وحين تهيأت لهم أدوات القول! والِإبانة، خالط الطارف التليد،
وذاب مال! الموزَث الجامع في مال! الوارث الرشيد، أو كما قال! صديقنا عبد اللطيف
عبد الحليم، عن شاعرنا الجارم: " ويطل على هذا المحفوظ المذخور من عل، فإذا
بمحفوظه يتوارى ليبرز كلامه هو".
وإذا كانت هذه الكلمة اليوم عن "علي الجارم " اللغوي النحوي؟ فإن ذلك
يلتمس من جانبين: الجانم! الأول!: نشاطه التأليفي والبحثي، من حيث هو معلم للغة
العربية، ثم كبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف المصرية، ثم من حيث هو
عضو مؤسس من أعضاء مجمع اللغة العربية.
والجانب الثاني: إبداعه الشعري، من حيث هو شاعر كبير، في شعراء عصره،
وشعراء ذلك الزمان كانوا - كما قلت - من اللغة والنحو بمكان مكين.
وقبل الحديث عن هذين الجانبين، أود أن أشير إلى شيء من تلك المكانة
اللغوية التي اقتعدها الجارم عند علماء عصره، فهذا الشيخ احمد محمد شاكر
القاضي الشرعي، وهو محدث العصر، وواحد من مدرسة الأفذاذ في تحقيق
النصوص ونشرها يذكر أنه كان يلجأ إلى علي بك الجارم، ويعرض عليه عمله في
تحقيق كتاب " الرسالة " للشافعي، وكان مما عرضه عليه كلمة " النذارة " وهي مضبوطة
في المخطوطة بكسر النون، ولم يرد ذلك في المعاجم المتداولة، ولكن المخطوطة
647

الصفحة 647