كتاب مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (اسم الجزء: 2)

وأول ما يلقاك أيها القارىء الكريم من ذلك في الماضي تلك الهيبة الخاشعة
التي تحف بأعضاء هيئة المناقشة حين يدخلون القاعة؟ لأنهم قضاة، ومجالس القضاء
مصحوبة دائماً بمظاهر الجلال والوقار، ويظل اعضاء المناقشة مدة المناقشة كلها
على هذا الحال من الجد والصرامة، أذكر يوما حضرت فيه مناقشة، وكان رئيس
الجلسة الأستاذ عباس حسن رحمه اللّه، وكان فيه باو وصرامة، وحين استقر على
المنصة هو وزميلاه نظر فوجد باقات من الورد أمامه وأمام الطالب، فاستدعى
العامل، وقال له: ارفع هذا، هل نحن في فرح؟
ويسري هذا الجد إلى الحضور جميعهم، فلا كلمة ولا تعليق، ولا تسمع إلا
همساً، وإذا بدا للطالب أن يتظرّف ليخفف من حدة مناقشيه، أعيد بقسوة إلى حالة
الوقار والجد، اذكر مرة للأستاذ عباس حسن ايضا، أنه أورد على الطالب ملاحظة
تتصل بالدقة في نقل الأرقام من المصادر، فقال للطالب: أنت ذكرت رقم الصفحة
(245) والصواب: (254)، فقال الطالب: لا بأس يا استاذنا، فقد حصل فيها قلب
مكاني! فما كان من الأستاذ عباس حسن إلا أن نهره بقوة، وقال: عيب يا ولد (القلب
المكاني في علم الصرف هو تقديم حرف على حرف، ومثاله في الفصحى: جذب
وجبذ، وجاه ووجه، وفي العامية: أرانب وأنارب، ومسرح ومرسج، وزنجبيل
وجزنبيل).
ثم لم يكن يُسمح فيما مضى لأحد من الحضور أن يعلق على ما يدور من
مناقشة، بل لم يكن الحديث يتجه إليهم اصلاً، وإنما الكلام بين المناقش والطالب
ليس غير، ثم لم يكن يسمح للأطفال بحضور تلك المناقشات.
أما اليوم، فالأساتذة يدخلون في موكب بهيج من الضحك والانبساط
والتطلق، ويسري هذا كسابقه إلى الحضور، فترى القاعة تموج بالانشراح والبهجة
والتعليقات الحلوة، والأطفال يتفافزون ويمرحون في القاعة، وقد جيء بهم ليروا
(بابا) في يوم عُرسه، والنساء يزغردن عند إعلان النتيجة، بل إني سمعت إحداهن
تنشد لقريبها الطالب:
678

الصفحة 678