كتاب الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها (اسم الجزء: 3)

والإيمان بالغيب حق ثابت وحاجة ضرورية للإنسان وقضية فطرية وميزة أصيلة فيه، وسوف أذكر الأوجه الدالة على هذا الحق وهذه الحاجة ثم أذكر الموقف المادي الحداثي والعلماني من هذا:
أولًا: أن الإنسان مكون -حسب أصل الخلقة التي خلقها اللَّه عليها- من مادة وروح، المادة تتمثل في أصله الطيني وتركيبه الجثماني، والروح تتمثل في عنصر الحياة المبثوث في هذا الجثمان، والسارية فيه سريان الماء في الشجر والشذى في الورد.
وفي القسم المادي الطاقات الحسية، الجسمية العضلية، من سمع وبصر ولمس وشم وذوق ولحم ودم وعضل وعصب وعظم، وفي القسم المعنوي طاقاته الروحية والفكرية والنفسية.
وهذان القسمان والعنصران ممتزجان في كيان موحد، ومنهما معًا تنبع جميع الطاقات الحسية والمعنوية، ولكل منهما غذاؤه وداؤه ودواؤه.
فبأجهزة كالجسم يتحرك الإنسان ويحس ويرى ويسمع ويذوق ويعمل، ويأكل ويشرب وينكح، وهو في جنس هذه الأعمال يشابه الحيوان، وهو منذ أن يولد توجد معه وتنمو بنموه متصلة بالحواس والأعصاب واللحم والدم.
وأجهزة البدن هي العظمية والدموية والعصبية والهضمية والتناسلية، أمّا الطاقة المعنوية فإنها منبثة في هذا الجسم المادي ومتصلة به اتصالًا وثيقًا، ولا يدري أحد على وجه التحديد مكانها وماهيتها ولكنه يدرك عملها وآثارها، وبها يدرك المعاني المجردة والتفكير التصوري، ويدرك الكليات والمعنويات والقيم العليا من العدل والحق والخير والجمال، وغير ذلك من الكليات والتجريديات، وهذه الطاقة المعنوية هي التي تميز بها الإنسان عن الحيوان، الذي ليس له مجال سوى المحسوس، أمّا الإنسان فإن المزية الأساسية له هي القدرة على الإيمان بما لا تدركه الحواس، وذلك تبع لعنصر الروح وما ينبثق عنها من طاقات معنوية.
هذه القضية -قضية خلق اللَّه للإنسان من روح وطين- تعتبر مفرق الطريق بين الدين والمادية الملحدة.

الصفحة 1541