كتاب الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها (اسم الجزء: 3)

لتلك النظرية الفظيعة كما وصفها، زد على ذلك أن المفكر الحر والناقد للدين المسيحي التقليدي العالم الفكتوري صموئيل بتلر الذي بدأ حياته الفكرية معجبًا بداروين ونظريته، سرعان ما ارتد على داروين ونعته بالمخادع الذي عرض على الناس تفاسير مغلوطة) (¬١).
ولست بصدد جمع جميع أقوال المتخصصين في العلوم التجريبية الذين ردوا على خرافة "النشوء والارتقاء" فهناك كتب تخصصت في ذلك وكشفتا بالتفصيل خطل هذه النظرية وضعفها، ولكن المراد إيراد بعض الشواهد من أقوال علماء الطبيعة الذين بينوا تفاهة هذه النظرية، ومقدار ما فيها من تلبيس وتدليس على البشر، وما تضمنه من إيحاءات مادية جاهلية حيوانية متخلفة.
ومع كل ذلك فإن قصة النشوء الذاتي التي اخترعها "داروين" سادت في الفكر الغربي منذ القرن التاسع عشر الميلادي وحتى الآن، وأضحت شهادة عصرية صارخة على مقدار الانغماس في الخيالات، لقد أصبحت هذه الأسطورة محورًا لفلسفات عديدة، بل أضحت هي الأساس لمجمل الفكر والسلوك الغربي المعاصر.
لقد أدت نظرية داروين إلى رسوخ الإلحاد الذي كان قد نشاء وانتشرت بذروة منذ الثورة الفرنسية المنادية بحرية الاعتقاد، ومع ذلك بقي الإلحاد محدود الانتشار إزاء العقيدة النصرانية التي كانت حتى ذلك الوقت محتفظة بقوتها ومركزها القوي بين عامة الناس وخاصتهم في الجامعات والمعاهد، ولما نشر داروين كتابه أصل الأنواع عام ١٢٧٥ هـ/ ١٨٥٩ م هز بنيان الحياة الغربية المتصدع في أساسه، ونشبت معركة شرسة بين الدين ممثلًا في الكنيسة المزعزعة المريضة الضعيفة، والعلم التجريبي ومدارسه، وانتهت المعركة إلى انهيار العقيدة الدينية جملة وتفصيلًا وانتشار الإلحاد
---------------
(¬١) المصدر السابق ولكن من الطبعة الجديدة المجموعة في مجلد واحد: ص ٢١٩ - ٤٢٠، أمَّا في الطبعة القديمة المفرقة في أجزاء ففي ٤/ ١٨٠ وهناك فرق طفيف بين الطبعتين يوضح المعنى؛ ولذلك نقلت من الطبعة الجديدة.

الصفحة 1548