كتاب الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها (اسم الجزء: 3)

كما ينعكس من كثير من ألوان الفن الحديث. . .) (¬١).
(. . . الواقعية الأوروبية تقول لك: دع عنك أحلام الخيال والمثل العليا، ولنكن واقعيين، أين التضحية التي ترسمها قصص البطولة وترويها الأساطير؟ أين الشجاعة المثالية والوفاء النبيل؟ أين مغالبة الأهواء، والارتفاع على الضرورة؟ أليست هذه كلها أساطير "استغفلتنا" بها الأجيال السابقة في قصص أبطالها وأنبيائها؟ فلنكن نحن واقعيين، فلنأخذ الإنسان بحقيقته الواقعة، خليط من النوازع الفطرية والنزوات الجائحة، والحياة كلها صراع هذه النزوات وارتطامها بعضها ببعض، يغلب الأقوى ويسقط الأضعف، لا عبرة بصاحب الحق، فالحق هو القوة.
تعال إلى هؤلاء الأنبياء والقديسين والأبطال والمصلحين، هلم نمرق نفوسهم على المشرحة، وننظر خلالها في "الميكروسكوب" ها هو ذا العفن الذي كانت تخفيه الأساطير، انظر إلى هذه النفس البيضاء السامقة التي يشع منها النور، تفحصها جيدًا، ألا ترى نقطة "الضعف البشري" الكامنة فيها؟ ، ألا ترى هذا التصرف المنحرف من تصرفاتها؟ ثبت نظرك هناك، وسلط هناك كل ما تملك من أنوار! .
وهكذا يعيدون دراسة الشخصيات التاريخية بهذا الهدف وتحت هذا الضوء! يبرزون ما فيها من نقط الضعف ويجسمون ما فيها من البقع تحت "الميكرسكوب" ويغفلون -عامدين أو غير عامدين- كل ما فيها من بياض وخير، في سبيل نقطة أو نقط ليست لامعة البياض.
إنها الواقعية. . . الحمقاء! .
أي كسب للبشرية في تجريح عظمائها وتلويثهم وتشويه صورهم بحجة الواقعية؟ إنها -فيما أرى- لوثة هذا الجيل، عجز عن الرفعة فراح يحطم المثل الرفيعة من بني الإنسان، وينزلهم إلى الوحل الذي غرق فيه هذا الجيل.
---------------
(¬١) المصدر السابق: ص ١١٢.

الصفحة 1561