كتاب الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها (اسم الجزء: 3)

إن وجود النظافة حجة على القذرين، ووجود المرتفعين حجة على الهابطين، فليهبط الجميع وليتسخ الجميع، حتى يتساوى هؤلاء وهؤلاء، وتبطل التهمة ويبرأ المتهمون! . . . فهذه الواقعية الحمقاء إذن لا نتيجة لها إلّا الهبوط الدائم إلى عالم الضرورة، وتضييق دائرة "الواقع" حتى يصبح واقع الحيوان) (¬١).
وهكذا رأينا من خلال الأوجة الثلاثة: جسد الإنسان وروحه أولًا، وما ترتب على ذلك ثانيًا وثالثًا من اشتماله على جانب حسي وآخر معنوي وعلى طاقة واقعية وأخرى خيالية، رأينا أن الإيمان بالغيب طاقة موجودة داخل الكيان البشري، طاقة فطرية في كل إنسان، وإن حاولت المادية الغربية أن تجحد ذلك أو تتناساه.
الواقع ليس كذلك، فكل إنسان عنده غيب لابد أن يؤمن به، وقد يهتدي في إيمانه بالغيب وقد يضل، وقد يزيد إيمانه بالغيب الحقيقي أو الوهمي وقد ينقص، فليست طاقة الإيمان بالغيب مترتبة على وجود دلائل الإيمان الحسية أو غير الحسية؛ لأنها طاقة أصيلة في كيان الإنسان، تجعله يؤمن بأشياء لا تدركها حواسه، ولا يدركها عقله كذلك إلّا في حدود.
ولنأخذ على ذلك مثالًا بداروين الذي بنى نظريته على الانتخاب الطبيعي وهو انتخاب تقوم به الطبيعة -حسب خرافته-، ثم قرر بأن الطبيعة تقفز قفزات مفاجئة وأن الاصفطاء الطبيعي فعل يقع ويقوم بدور من الأدوار (¬٢).
فما الطبيعة التي تغفل هذه الأفعال الدقيقة، وتقوم بهذه الأدوار المحكمة؟ لقد هرب داروين وأتباعه من الإيمان باللَّه إلى الإيمان بالطبيعة، نسوا في غمرة فرضيتهم أن الطبيعة ذاتها غيب، وإلّا فما هي على وجه التحديد؟ وكيف تعمل؟ وكيف تنتخب وتصطفي؟ وما كنه الطاقة التي تشتمل
---------------
(¬١) المصدر السابق: ص ١١٣ - ١١٥.
(¬٢) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي: ص ٤١٥.

الصفحة 1562