كتاب الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها (اسم الجزء: 2)

"الحضارة المتوسطية" عن ذلك تمامًا، فيوسف الخال يشير من انكلترا إلى البحر المتوسط "بحرنا العظيم الخالد" كما يصف "خطوات الملك" لشوقي أبو شقرا بأنها "إنتاج لبناني متوسطي" كما يرى أدونيس في شعر يوسف الخال عودة العربي إلى نقائه الأول "عودة توحدنا بقوى تراثنا الحية الحرة. . . هذه القوى هي عقدة الوصل التي تعيد ربطنا كعرب بتاريخ المغامرة الإنسانية، تصل ما انقطع بيننا وبين اليونان، وما قبل اليونان عبر المسيحية -بيننا وبين التراث المتوسطي- خميرة الحضارة الإنسانية ومهدها") (¬١).
إن هذا النص والذي قبله يبدوان للوهلة الأولى أنهما يمثلان نظرة تاريخية خاصة بصاحبها، وموضوعية معرفية تحتوي على إنصاف، إلا أنها في حقيقة الأمر ينطويان على مبدأ تسويقي لا يخلو من طرافة مضحكة فحواها: إن الحداثة المستوردة ليست سوى بضاعتنا التي ردت الينا، فهي -حسب رأي باروت- نهضة تقوم على جذور تاريخية هي الحضارة المتوسطية، فلا وجه للانزعاج منها، ووصفها بأنها غزو فكري غربي، ولا مجال لاعتبارها غريبة على هويتنا وثقافتنا ومجتمعاتنا، فيا لها من حقائق مزورة وتخيلات تكتسي -بالزور- ثوب الحقيقة! ! !
إن أصدق تعبير عن هذه التبعية ما قاله باروت عن ذوبان عصبة شعر في الغرب: (التي وجدت في النموذج الثقافي - الشعري الغربي كمال التعبير عنها، لقد هضمت نخبة "شعر" محتويات هذه الحساسية ثقافيًا وروحيًا وجماليًا، وأعادت إنتاجها شعريًا) (¬٢).
وهذا القول شهادة حقيقية على مقدار التبعية في مجلة شعر وأتباعها وهي شهادة يُمكن تعميمها على كل أتباع الحداثة الذين تبنوا ما يسمى بالنهضة الحديثة وهي في الحقيقة ارتكاس وانتكاس وتبعية باعتراف الحداثيين أنفسهم، كما قال أحدهم: (كانت النهضة تعلن عن تكون نظرة جديدة للحياة والعالم والإنسان. . . بهذا المعنى يُمكن فهم اقتراح "الشعر المنثور"
---------------
(¬١) الحداثة الأولى: ص ١٥ وما بين الأقواس الداخلية من أقوال يوسف الخال وأدونيس.
(¬٢) المصدر السابق: ص ٦٦.

الصفحة 710