كتاب فصل الخطاب في الرد على أبي تراب

فجوابه: أن يقال: إن الغناء يطلق ويراد به مجرد الإنشاد، ويطلق ويراد به التلحين والتطريب مع التمطيط والتكسير وتقطيع الشعر على النغمات الرقيقة، وهذا القسم الأخير هو المحرم، وهو غناء المخنثين وأشباههم، وهو الذي نفته عائشة رضي الله عنها عن الجاريتين. وقد ثبت عنها أنها أنكرت على من كان يغني كذلك، وسمته شيطاناً، وأمرت بإخراجه من البيت. وقد تقدم ذلك في ذكر أقوال الصحابة رضي الله عنهم. والذي أثبتته عائشة رضي الله عنها للجاريتين هو مجرد الإنشاد مع ضرب الدف. وقد تقدم أن إنشاد الشعر يسمى عند العرب غناء، لكنه ليس بالغناء المحرم. وقد جزم أبو الفرج ابن الجوزي، وأبو موسى المديني، وابن الأثير في [النهاية]، وابن منظور في [لسان العرب] بأن غناء الجاريتين عند عائشة رضي الله عنها كان مجرد إنشاد لا غير. وقال جعفر بن محمد: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: حديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها عن جوار يغنين، أي شيء هذا الغناء؟ قال: غناء الركب: أتيناكم أتيناكم. ومعنى هذا: أن غناء الجاريتين عند عائشة رضي الله عنها لم يكن فيه تلحين وتطريب يستفز العقول، وإنما هو من جنس قولهم: أتيناكم أتيناكم. وأما تأويل ابن حزم لقول عائشة رضي الله عنها: وليستا بمغنيتين، بأنهما ليستا بمحسنتين فهو من تحريف الكلم عن مواضعه؛ لأن مراده أن الجاريتين كانتا تغنيان بالغناء المعروف عند أهل اللهو واللعب ولكنهما ليستا بمجيدتين في معرفة الغناء. وهذا خلاف ما قرره أهل العلم والتحقيق. والله أعلم.

الصفحة 353