كتاب فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله

وصار حاملَ فقه غيرَ فقيه، ومِن فقهاء أهل الرأي مَن توسَّعَ في توليد المسائل قبل وقوعها، ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلُّف الجواب عن ذلك وكثرة الخصومات فيه والجدال عليه، حتى يتولَّد من ذلك افتراقُ القلوب ويستقرَّ فيها بسببه الأهواءُ والشحناء والعداوة والبغضاء، ويقترن ذلك كثيراً بنيَّة المغالبة وطلب العلوِّ والمباهاة وصرف وجوه الناس، وهذا مِمَّا ذمَّه العلماءُ الربَّانيُّون، ودلَّت السنَّةُ على قُبحه وتَحريمه، وأما فقهاءُ أهل الحديث العاملون به، فإنَّ معظمَ همِّهم البحث عن معاني كتاب الله عزَّ وجلَّ وما يفسِّره من السنن الصحيحة وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وتفهُّمها والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومَن وافقه مِن علماء الحديث الربانيِّين، وفي معرفة هذا شغلٌ شاغلٌ عن التَّشاغل بما أحدث من الرأي مِمَّا لا ينتفع به ولا يقع، وإنَّما يورثُ التَّجادلُ فيه الخصومات والجدال، وكثرة القيل والقال، وكان الإمام أحمد كثيراً إذا سُئل عن شيء من المسائل المولَّدات التي لا تقع يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة".
إلى أن قال: "ومَن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه تَمكَّن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالباً؛ لأنَّ أصولَها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولا بدَّ أن يكون سلوكُ هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم، كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومَن سلك مسلكهم، فإنَّ مَن ادَّعى سلوك هذا الطريق على غير

الصفحة 52