كتاب تأويل مختلف الحديث

وَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، قَوْلُكَ -فِي دَارٍ رَأَيْتَهَا صَغِيرَةً- لَا يَنْزِلُ فِي هَذَا الدَّارِ أَمِيرٌ.
تُرِيدُ: حُكْمَهَا وَحُكْمَ أَمْثَالِهَا أَنْ لَا يَنْزِلَهَا الْأُمَرَاءُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلُوهَا.
وَقَوْلُكَ: هَذَا بَلَدٌ لَا يَنْزِلُهُ حُرٌّ؛ تُرِيدُ لَيْسَ حُكْمُهُ أَنْ يَنْزِلَهُ الْأَحْرَارُ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلُوهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ" 1 لِأَنَّهُ رَغِبَ عَنْ هَدِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَدَقَتِهِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِرُخْصَتِهِ وَيُسْرِهِ.
وَالرَّاغِبُ عَنِ الرُّخْصَةِ، كَالرَّاغِبِ عَنِ الْعَزْمِ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، إِنْ عَاقَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 2.
أَيْ: حُكْمُهُ أَنْ يَجْزِيَهُ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ"3.
وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّهِيدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: يُؤْتَى بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأُقَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ لِي: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْقَاتِلَ فِي النَّارِ؟
فَأَقُولُ: أَنْتَ قُلْتَهُ يَا رَبِّ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} .
فَقُلْتُ لَهُ -وَمَا فِي الْبَيْتِ أَصْغَرُ مِنِّي- أَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ لَكَ: فَإِنِّي قَدْ قَلْتُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4 مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنِّي لَا أَشَاءُ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ؟
قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا.
__________
1 أَحْمد: 4/ 25، 26، 414.
2 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة 93.
3 سبق تَخْرِيجه ص 158.
4 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة 48.

الصفحة 185