كتاب تأويل مختلف الحديث

وعَلى وَجه الْإِجْمَال فَإِن من ولي خلَافَة بَغْدَاد فِي تِلْكَ الفترة كَانُوا من الْخُلَفَاء الْعلمَاء، فرغبوا فِي الْعلم، وأحسنوا إِلَى الْعلمَاء وأكرموهم؛ فازدهرت بَغْدَاد بالعلماء وبالقادمين مِنْهُم إِلَيْهَا وأصبحت ميدانًا للحركة العلمية لَا نَظِير لَهُ فِي الْعَالم.
ويبدو أَن الْمَأْمُون كَانَ درة تِلْكَ الفترة من التَّارِيخ بِعِلْمِهِ وشغفه بِالْعلمِ وَأَهله، يحاور الْعلمَاء وَيجْلس إِلَيْهِم. فيسود عصره لون من التسامح الفكري يشجع الْعلمَاء والمفكرين على الإبداع وحرية الرَّأْي، فَكَانَ لذَلِك أَثَره الْكَبِير فِي ظُهُور الْفرق الكلامية واحتدام الجدل بَينهَا، وَظهر فِي هَذَا الْعَصْر نفر من جلة الْعلمَاء ورءوس الْمُتَكَلِّمين أوغلوا فِي الْبَحْث معتمدين على الْعقل مخالفين بِمَا يَقُولُونَ مَا عَلَيْهِ أَكثر عُلَمَاء الْمُسلمين.
وَنَشَأ هَذَا الْخلاف أول مَا نَشأ فِي الْبَصْرَة ثمَّ تعداها إِلَى بَغْدَاد، حمل لِوَاءُهُ وَاصل بن عَطاء ثمَّ عَمْرو بن عبيد -الَّذِي قربه الْمَنْصُور إِلَيْهِ- ثمَّ أَبُو الْهُذيْل العلاف، والنظام وَغَيرهم من شُيُوخ الاعتزال.
وَمضى الْخلاف بَين الْمُعْتَزلَة وَأهل السّنة يَتَّسِع، حَتَّى توج أخيرًا بِتِلْكَ المشكلة الَّتِي مَال فِيهَا الْمَأْمُون إِلَى رَأْي الْمُعْتَزلَة -وَهِي مشكلة خلق الْقُرْآن- تِلْكَ المشكلة الَّتِي شغلت الْمَأْمُون أَكثر من غَيره، وَأخذ يناصب العداء كل من خَالفه مناقضًا بذلك منهجه الأساسي فِي احترامه لحرية الرَّأْي وَتَقْدِيره لاجتهادات الْعلمَاء، لكنه التعصب الَّذِي قد ينَال بعض الْعلمَاء فيتحمسون لما يرونه إِلَى دَرَجَة لَا يَسْتَطِيعُونَ سَماع رَأْي مُخَالف.
وَمن بعد الْمَأْمُون يَجِيء "المعتصم" فيتورط فِيهَا كَمَا تورط أَخُوهُ الْمَأْمُون، وتستمر هَذِه المحنة حَتَّى عهد "الواثق" فيحاول أَن يجد لهَذِهِ المشكلة مخرجا، وتنتهي فِي عهد "المتَوَكل" 247هـ حَيْثُ خلى بَين النَّاس وَبَين مَا يرَوْنَ.
وَإِلَى جَانب الْمدَارِس الكلامية تقوم مدارس نحوية وألوان من الْفِكر والثقافة نتيجة لهَذِهِ الْحَرَكَة العلمية الَّتِي ساهم فِيهَا خليط من الشعوب مثل

الصفحة 35