كتاب تأويل مختلف الحديث
59- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- فِي شُرْبِ الْمَاءِ قَائِمًا:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ بن الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا، قُلْتُ: فَالْأَكْلُ؟ قَالَ: "الْأَكْلُ أَشَدُّ مِنْهُ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِع، عَن بن عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِم" 2.
__________
1 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 6056 بِلَفْظ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن الشّرْب قَائِما وَالْأكل قَائِما"، وَفِي سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 1770.
2 الَّذِي فِي البُخَارِيّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شرب قَائِما وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله كَمَا روى البُخَارِيّ فِي بَاب مَا جَاءَ فِي زَمْزَم فروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه سقى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زَمْزَم فَشرب وَهُوَ قَائِم، يَعْنِي فِي حجَّة الْوَدَاع، والْحَدِيث رقم 1937 من فتح الْبَارِي، وَزَاد البُخَارِيّ أَن عِكْرِمَة حلف مَا كَانَ يؤمئذ إِلَّا على بعير. وَذهب ابْن حجر أَن حلف عِكْرِمَة من قبيل مَا علم من نَهْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشّرْب قَائِما. والحقيقة أَن كَلَام عِكْرِمَة لَهُ وَجه يَسْتَقِيم من لفظ الحَدِيث وَهُوَ أَن الرَّاكِب على بعير إِذا وقف على شَيْء أَو قوم يُقَال قَامَ عَلَيْهِم، وَلَقَد وقف رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة على الْقَصْوَاء طوال الْوَقْت، وَرويت أَحَادِيث عَن منااولته قدحًا من اللَّبن وَهُوَ وَاقِف أَو قَائِم بعرفه ليعلم أهوَ صَائِم أم مفطر. وَالْخُلَاصَة أَن الرَّاكِب على بعير أَو نَحوه إِذا وقف لشأن يُقَال لَهُ قَائِم وَيُقَال لَهُ وَاقِف، وَالَّذِي وقصته نَاقَته وَهُوَ قَائِم بِعَرَفَة كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا، فَلَيْسَ معنى قَامَ على بعيره أَو وقف على رَاحِلَته أَنه وَاقِف عَلَيْهَا، بل هِيَ الواقفة وَهُوَ قَاعد عَلَيْهَا، وَلَا يفهم مِنْهَا إِلَّا هَذَا. وَعَلِيهِ فَيُصْبِح قَول عِكْرِمَة وَقَول ابْن عَبَّاس جَمِيعًا، فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب من زَمْزَم وَهُوَ قَائِم، يَعْنِي على رَاحِلَته، بِمَعْنى أَنه كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا وَهِي قَائِمَة، وَعَلِيهِ لَا يُفِيد الحَدِيث مَا دلّ عَلَيْهِ الظَّاهِر أَنه شرب قَائِما على رجلَيْهِ بل جَالِسا على بعيره. وَهَذَا تَخْرِيجه صَحِيح يتَّفق مَعَ نَهْيه فِي صَحِيح مُسلم فِي أَكثر من حَدِيث عَن الشّرْب قَائِما، وَيبقى بعد ذَلِك حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ يُعَكر على هَذَا لِأَنَّهُ صَرِيح فِي شربه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا على رجلَيْهِ، وَلَعَلَّ ذَلِك لبَيَان الْجَوَاز عِنْد الْحَاجة، وَالله تَعَالَى أعلم. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.
الصفحة 468