كتاب تأويل مختلف الحديث

60- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- فِيمَا يَنْجُسُ مِنَ الْمَاءِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: "الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا" 2.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ حَمَلَ النَّجَسَ، وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِخِلَافٍ لِلْأَوَّلِ.
وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" عَلَى الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ عَلَى الْآبَارِ وَالْغُدْرَانِ3 أَنْ يَكْثُرَ مَاؤُهَا، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْخُصُوصِ. وَهَذَا كَمَا يَقُولُ: "السَّيْلُ لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُ مَا يَرُدُّهُ الْجِدَارُ"، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْكَثِيرَ مِنْهُ لَا الْقَلِيلَ.
وَكَمَا يَقُولُ: "النَّارُ لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ"، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ نَارَ الْمِصْبَاحِ الَّذِي يُطْفِئُهُ النَّفْخُ وَلَا الشَّرَارَةَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ نَارَ الْحَرِيقِ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا بَعْدَ هَذَا بِالْقُلَّتَيْنِ، مِقْدَارَ مَا تَقْوَى عَلَيْهِ4 النَّجَاسَةُ مِنَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ، الَّذِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْء.
__________
1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 34، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 49، وَالنَّسَائِيّ: مياه 1 و2، وَابْن ماجة: طَهَارَة 76، وَأحمد: 1/ 235 و284 و308، و3/ 16 و31 و86 و6/ 172.
2 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 518-146 عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه أَبُو دَاوُد: 56.
3 الغدران: جمع "غَدِير" وَهُوَ النَّهر.
4 وَلَعَلَّ الْأَصَح: مَا لَا تقوى عَلَيْهِ النَّجَاسَة.

الصفحة 470