كتاب الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة (اسم الجزء: 3)

إن علم الفقه لدى الإمام محمّد هو الذي يحقق للناس ما ينشدون من سعادة في الدنيا والآخرة، أما ما خاضت فيه الفرق الكلامية فهو إذا تجاوز حدود ما جاءت به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية دون تأويل مسرف مزلقة إلى الزيغ والضلال.
ومن هنا فإن الإمام محمَّدًا كان يعرف تمام المعرفة تلك الخلافات الكلامية التي عرفتها حلقات العلماء في عصره، ولكنه لم يشغل نفسه فيها كثيرًا لأن هذا جهد في غير موضعه إن لم يكن طريقًا محفوفًا بأشواك الفساد والإلحاد.
وأما موقف الإمام محمّد من علم الكلام فهو -كما يبدو مما أسلفت- يتميز بالتوقف عند ظاهر النصوص والأخذ بما كان عليه الصحابة والتابعون.
وأخيرًا لعل ما عرف به هذا الإمام من الورع والزهد كان عاملًا مساعدًا في نفوره من الخوض في مسائل علم الكلام كما خاضت الفرق المختلفة وبخاصة المعتزلة.
وكان الإمام محمّد كما قال عنه الشافعي من أفصح الناس، وكان أسلوبه يحمل ومسحة من أسلوب القرآن الكريم، فهو جزل الألفاظ، محكم النسج، مشرق الديباجة، ومن يقرأ مؤلفات هذا الإمام يلحظ أنها مزاج من الفكرة العلمية السديدة، والعبارة القوية الرصينة، ولا غرو فقد أنفق محمّد على طلب اللغة والأدب مثل ما أنفق على طلب الحديث والفقه.
ولم يكن محمّد ذا أسلوب أدبي جميل فقط، ولكنه كان أيضًا لغويًّا أصيلًا يحتج بقوله في إثبات اللغة، فقد أخذ الأصمعي وأَبو عبيدة بقوله في كثير من المواضع، وكان ثعلب يقول: محمّد عندنا حجة من أقران سيبويه، وكان قوله حجة "في اللغة".
وظهرت ثقافة محمّد اللغوية في مؤلفاته الفقهية، فقد اشتملت هذه المؤلفات على مسائل كثيرة قامت على أساس من أصول اللغة وقواعدها، وكان خلافه مع الشيخين يرجع في بعض الأحيان إلى أسباب تتصل باللغة أوثق اتصال.
ذكر ابن يعيش في شرح خطبة كتاب المفصل، أن محمدًا ضمن كتابه المعروف بالجامع الكبير في كتاب الإيمان منه مسائل فقه تبني على أصوله العربية لا تتضح إلا لمن له قدم راسخ في هذا العلم، فمن مسائله الغامضة أنه إذا قال: أي عبيدي ضربك فهو حر، فضرب إلجميع عتقوا، ولو قال: أي عبيدي ضربته فهو حر لم يعتق إلا الأول منهم، فكلام هذا الخبر مسوق على كلام النحو في هذه المسألة، وذلك من قبل أن الفعل في المسألة الأولى مسند إلى عام وهو ضمير أي، وأي كلمة عموم، وفي المسألة الثانية خاص لأن الفعل فيه مسند إلى ضمير المخاطب وهو خاص. وروى مؤلف جامع مسانيد الإمام الأعظم أن أبا بكر الرازي قال في شرح الجامع الكبير: كنت أقرأ بعض مسائل الجامع على بعض المبرزين في النحو، قيل هو أَبو علي الفارسي، فكان يتعجب من تغلغل واضع هذا الكتاب في النحو، يعني محمّد بن الحسن.
وقال ابن جني عن كتب الإمام محمّد وأثرها في علم النحو: إنما ينتزع أصحابنا منها العلل لأنهم

الصفحة 2029