كتاب الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة (اسم الجزء: 3)

يجدونها منثورة في أثناء كلامه فيجمع بعضها إلى بعض بالملاطفة والرفق.
ومن الصور الفقهية التي يرجع الاختلاف فيها بين الشيخين ومحمد إلى اللغة ما روي من أن رجلًا لو قال لآخر زنأت في الجبل، وقال عنيت الصعود فيه، فعليه الحد في قول الشيخين، ولا حد عليه في قول محمّد، لأن أهل اللغة يستعملون هذا اللفظ مهموزًا عند ذكر الجبل، ويريدون به الصعود.
وجاء في باب المضاربة من مبسوط السرخسي أن أبا يوسف يرى أنه لو قيل: على أن للمضارب شركًا في الربح، فإن للمضارب نصف الربح، لأن لفظ الشرك كالشركة يقتضي التسوية، وقال محمّد: هذه مضاربة فاسدة لأن الشرك في هذه العبارة بمعنى النصيب، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي الْسَّمَاوَاتِ}، فكأنَّه قال على أن للمضارب نصيبًا وذلك مجهول.
والواقع أن كلمة شرك في بعض استعمالاتها اللغوية تؤدي معنى الشريك، ولكن ورودها في تلك العبارة على هذه الصورة يجعل تفسيرها بمعنى النصيب أرجح من تفسيرها بمعنى الشريك، وهذا دليل على حسّ محمّد اللغوي الدقيق، وأثر هذا في فقهه.
ومحمد على إمامته في اللغة نقل عنه أنه كان يستعمل أحيانًا بعض الألفاظ غير الفصيحة لأنها شاعت على ألسنة العامة واكتسبت دلالات خاصة، فهو يستعملها ليخاطب الناس بما هو معروف عندهم ومألوف لديهم، لييسر عليهم فهم الأحكام، وهذا ما كان يحرص عليه غاية الحرص، ومن ذلك مثلًا ما ذكره السرخسي من أن أهل الأدب طعنوا على محمّد، لأنه يقول حنطة مقلية لا مقلوة، ورد السرخسي على هذا فقال: محمّد كان فصيحًا في اللغة، إلا أنه رأى استعمال هذا اللفظ في الحنطة ومقصوده بيان الأحكام لهم، فامشحمل فيه اللغة التي هي معروفة عندهم وما كان يخفى عليه هذا الفرق ...
وروي أن الإمام محمدًا استعمل بعض الألفاظ غير العربية، فقد كان يحيا في مجتمع قريب العهد بالحضارة الفارسية، ومع أن لغة الكتاب الكريم ظهرت على اللغة الفارسية في هذا الجتمع إلا أن هذه ظل لها وجودها أو وجود بعض مفرداتها - وإن أصابها شيء من التغيير أو التعريب - على ألسنة العامة، وكان استعمال هذه المفردات من باب مخاطبة الناس بما يفهمون، تقريبًا للأحكام وتسهيلًا لمعرفتها، وهذا لا يقدح في فصاحة الإمام محمّد وإمامته اللغوية.
وكما كان محمّد إمامًا في علم العربية كان مقدمًا في علم الحساب والجبر ماهرًا في التفريع على الأصول، وحسب القارئ أن يرجع إلى كتاب الأصل، أو الجامع الكبير ليرى المهارة الدقيقة في تصور المسائل وبيان أحكامها، والقدرة العلمية في حساب الأنصبة وبيان مقاديرها، وهذا يؤكد مدى ما كان يتمتع به الإمام محمّد من عقلية خصبة ذكية ذات طاقة قوية على الفرض والتصور.
ومن الأمثلة التي توشح مبلغ قدرة محمّد الحسابية ومهارته في فرض المسائل، ما ذكره في كتاب الأمالي عن الدار المشاعة بين رجلين وثالث

الصفحة 2030