كتاب توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (اسم الجزء: 1)

الفصل الثاني:
مصر:
وبعد الخلاصة الموجزة عن العصر المملوكي تناولت فيها نظم حكمه وأحواله الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية، حيث العصر الذي عاش في كنفه ابن أم قاسم المرادي وتأثر به في كل أحواله ... لا يفوتنا، أنه عاش في مصر وقاهرتها واستظل بسمائها، وافترش أرضها وشرب من ماء نيلها، لذلك سأسرد نبذة موجزة عن مصر وجوها وأحوالها فنقول:
مصر بنت النيل، الطيبة تربتها، الصافية سماؤها، المعتدل جوها، الرضية حياتها، السمح أهلها، الرحب جنابها، مرت بها العصور تتوالى دونها، صاحبت الشمس منذ مطلعها، ورافقت الزمن منذ نشأته، وعبرت بها الأحداث حيرى دونها، مع كثرة غيرها وصروفها، ولكن مصر كانت هادئة بإيمانها مطمئنة بيقينها، لذلك لم تكن تألو أن تخلع على هذه الأحداث والغير والصروف أثوابا من الهزء، وأردية من السخرية أن آمنت أن العاقبة لها، وأن الخلود في جانبها، وأن البقاء من نصيبها، أما ما دونها من عوادي الزمن ومحن الأيام، فإنها أمامها أشبه ببساط منشور يستعين به الهراجون والمتبذلون فيفكهون الناس حينا ببعض قصصهم، فإذا ما انقضت آونتهم وانتهت فترتهم، طووا بساط اللهو، فينشر غيرهم بساطا آخر جديدا، وهكذا دواليك، بين هذه الأمواج الصاخبة في بحر الزمان، وبين هذه العواصف المتلاحقة في جو الليالي، شهدت مصر ألوانا شتى من قصص الحياة ومثلها، آنًا تسمو إلى ما هي له أهل من السمو فتقبض بيدها على صولجانها، فيأتمر الناس بأمرها، وينتهون بنهيها، وآنًا تهددها الأحداث، وتتعاورها الخطوب، فتنثني باسمة أمام العاصفة، فتهزم شدتها بما وهب لها من لين، وتقهر قسوتها بما منحته من لطف، وهي هي مصر الباقية الوادعة.
وإذا كانت مصر هكذا كالطود الشامخ، فهي جديرة بأن تخرج أفذاذا وأشبالا في اللغة وغيرها مثل ابن أم قاسم المرادي وغيره، فهؤلاء استمدوا قوتهم من قوتها وتأثروا بجوها وحوادثها ومناخها.

الصفحة 29