كتاب عون الحنان في شرح الأمثال في القرآن

قَبْلِكُمْ [البقرة: 21]، إلى قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:
22]، فإن قوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [البقرة: 22] تنبيه على دلالة العناية.
ومثل هذا قوله سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33]، وقوله جل شأنه: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران: 191].
فهذه الطريق هى الصراط المستقيم التى دعا الله الناس منها إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل فى فطرهم من إدراك هذا المعنى، وإلى هذه الفطرة الأولى المستقرة فى طباع البشر أشار بقوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [الأعراف: 172]، ولذا قد يجب على من كانت رغبته طاعة الله، والإيمان به، وامتثال ما جاءت به رسله، أن يسلك هذه الطريقة، حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية مع شهادته لنفسه وشهادة الملائكة، كما قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18].
ومن الدلالات الموجودات من هاتين الجهتين وجود الأشياء مسبحة لله تعالى، المشار إليه بقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:
44]، فالكائنات من حيث كونها موجودة، فيها دليل الاختراع، ومن حيث كونها خاضعة لله منقادة لما أراده منها، مثل دوران الأفلاك، وسيلان الماء، وهطول الأمطار، وما إلى ذلك، فيه دلالة الغاية والعناية.
فقد بان من هذه الأدلة أن الدليل على وجود الصانع منحصر فى هذين الجنسين دلالة العناية ودلالة الاختراع، وأن هاتين الطريقتين بأعينهما طريقة الخواص، وأعنى بالخواص العلماء، وطريقة الجمهور، وإنما الاختلاف بين المعرفتين فى التفصيل، أعنى أن الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبينة على الحس، وأما العلماء فيزيدون على ذلك ما يدرك بالبرهان، حتى قال بعضهم: أن الذى أدركه العلماء من معرفة أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب من كذا

الصفحة 67