كتاب الأزمنة والأمكنة

وقال الحارث بن حلزة، وكان ينكر الطّيرة: يا أيها المزمع ثم انثنى. الأبيات وقد مرّت في باب العيافة والقيافة. وأنشد المفضّل شعرا:
تغتال عرض الرّويّة المذالة ... ولم ينطعها على غلاله
إلّا بحسن الخلق والنّباله ... آذن بالبين صريد الصّاله
فبات منه القلب في البلباله ... ينزو كنز والطّير في الحباله
صريد: تصغير صرد، وأضاف إلى الصّالة، وهذا كما يقال: غراب البين.
ولقي النبي صلى الله عليه وسلم حضرميّ بن عامر في ناس من قومه فنسبهم النّبي صلى الله عليه وسلم وقال: «من أنتم؟» فقيل: نحن بنو الزّنية فقال عليه السلام: «بل أنتم بنو الرّشدة» فقالوا: لا نرغب عن اسم أبينا، ولا نكون مثل بني محوله، يعنون بني عبد الله بن غطفان. قال: «بل أنتم بنو عبد الله فسمّوا بني محوله» .
وما ذكرناه في هذا الباب كاف في موضعه، وقد استقصيت الكلام في فنونه وشعبه في كتابي المعروف (بعنوان الأدب) وذلك في الباب الجامع لذكر الرّموز والعادات. وهو باب كثير الفوائد، غريب الموارد.
وفي الحديث: أنه كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة، واعترض بعضهم عليه فقال: إذا كان الفأل لا يوجب إلّا مثل ما توجب الطّيرة فيما يرجى أو يخاف، فلا فصل بينهما وذاك أن قول القائل يا واجد وأنت باغ، لا يوجب أمرا بخلاف ما يوجبه قوله: يا مضلّ، لأنّ مطلوبك على ما كان عليه لا حقيقة تبدّله، ولا مجاز يغيّره، فيؤدّي الحالتين على طريقة واحدة. قلت: إن تسمع كلمة في نفسها مستحسنة وتكون قد أحدثت من قبل طمعا في أمر من عند الله تعالى فيعجبك سماعك لها إذ كان الطّمع خلاف اليأس، ولأنّ الكلمة واقفته.
ومثاله أن تسمع وأنت خائف يا سالم، فالفأل لا يوجب السّلامة، ولكن كأنّه يبطل اليأس، ويدفع سوء الظّن، والرّجاء بالله وحسن الظّن به محمود مندوب إليه، وإذا ظنّ أنّ المرجو من حيث وافق تلك الكلمة كالأقرن، ففرح بذلك فلا بأس عليه. وإذا كان الأمر على هذا فالطّيرة بعيدة من هذا، وكذلك المتطيّر فيما يأتيه أو يذره وهذا ظاهر.
وحكى الجاحظ عن الأصمعي، قال: هرب بعض البصريّين من بعض الطّواعين فركب حمارا ومضى بأهله نحو سفوان، فسمع غلاما له أسود يحدو خلفه ويقول: لن يسبق الله على حمار، ولا على ذي ميعة مطار أن يأتي الحتف على مقدار، قد يصبح الله أمام السّاري، فلمّا سمع ذلك رجع بهم، ومن أعجب ما لهم قول الشّاعر:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحقّ له الفقود

الصفحة 533