كتاب الأزمنة والأمكنة

وقول آخر:
فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت ... فطعنة لاغس ولا بمغّمر
لأنّ ظاهر هذا الكلام يقتضي أنّهم كانوا إذا شكوا سلامة رميهم رقوا نبالهم برقية، ونفثوا فيها نفث السّواحر في عقد ما يبرمونه من سحرها. وهذا كما اعتقد في النّيران وهي كثيرة ينسب بعضهم إلى العجم، وبعضهم إلى العرب وفي أثنائها نيران الدّيانات حتى عبدت. ويذكر هنا ما يأخذ كتابنا هذا منه بحظ، فقد استقصى الجاحظ القول فيها، وذكر أحوال المعظمين لها والمستهينين بها وقد قال الله تعالى في ذكر الثّقلين: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
[سورة الرّحمن، الآية: 35- 36] وليس يريد أنّ التعذيب بالنّار نعمة يوم القيامة، ولكنّه أراد التّحذير بخلقه لها والوعيد بها غير إدخال النّاس فيها، وإحراقهم بها، وفي ذلك نعمة من الله مجدّدة، إذ كان حال من حذر مخالفا بحال من أهمل وترك وما يختاره. وقال الشاعر يد الخصب شعرا:
في حيث خالطت الخزامي عرفجا ... يأتيك قابس أهله لم يقبس
ومن أمثالهم: في كلّ شجر نار، واستمجد المرخ والعفار. وفي الجاهلية الأولى إذا تتابعت عليهم الأزمات، وركد البلاء، واشتدّ الجدب، واحتالوا إلى استمطار جمعوا ما قدروا عليه من البقر، ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السّلع والعشر ثم صعدوا بها في جبل وعر وأشعلوا فيها النّار وضجّوا بالدعاء والتّضرع، وكانوا يرون أنّ ذلك من أسباب السّقيا. لذلك قال أمية بن أبي الصّلت:
سنة أزمة تخيل بالنّاس ... ترى للعضاة فيها صريرا
سلع ما ومثله عشر ما ... عايل ما وعالت البيقورا
ويقال: بقر وباقر وبيقر وبيقور وبقير. وقال بعضهم: تقرّبوا بذلك، كما تفرّد بعضهم بقربان تأكله النّار فإنهم كانوا يأتون بالقرابين ويوقدون نارا عظيمة وتدنى تلك القرابين في لخلف منها وهم يطوفون حولها ويتضرّعون، فإذا أكلت النّار وقد أشعلوها تلك القرابين عدّوا ذلك قبولا لها، وإسعافا بالمطالب منها. وأنشد القحذمي للورل الطّائي في لاستمطار:
لا درّ درّ رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر
أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر
وعلى ذكر النّار فللعرب منها ما يذكر في الرّموز. ومنها ما يجعل علامة لحوادث كحذر. ومنها ما يضرب بذكره مثل، أو يعقد به ديانة، أو يقام به تشبيه وسنّة، والجاحظ قد

الصفحة 534