كتاب الأزمنة والأمكنة

أثار الرّهج في جمعها ووصفها، والكلام عليها وعلى المتدّينين بعبادتها، وأنا أذكر منها هنا ما يكتفى به إن شاء الله تعالى.
قال الجاحظ: قال الله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ
[سورة يس، الآية: 80] النار من أكبر الماعون، وأعظم المرافق، ولو لم يكن فيها إلّا أنّ الله تعالى جعلها الزّاجرة عن المعاصي، لكان في ذلك ما يزيد في قدرها ونباهة ذكرها وقال تعالى: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ
[سورة الواقعة، الآية: 73] فالعاقل المعتبر إذا تأمل قوله تعالى: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً
تصوّر ما فيها من النّعم أولا ومن النقم آخرا. وقد عذّب الله تعالى الأمم بأنواع العذاب ولم يبعث عليهم نارا لأنّه جعلها من عذاب الآخرة.
قال: ومن النّيران بعدما ذكرها من أنّ العرب في الجاهليّة كانت تستمطر بالنّار التي كانوا يوقدونها عند التّحالف، فلا يعقدون حلفهم إلّا عندها، وكانوا يقولون في الحلف:
الدّم الدّم والهدم الهدم لا يزيده طلوع الشّمس إلا شدّا، وطول اللّيالي إلا مدّا، وما بلّ البحر صوفة، وما أقام رضوى في مكانه، إذ كان جبلهم رضوى أو ما أنفق من مشاهير بلادهم يؤكّدون العقود بمثل ذلك، وعلى هذا ما ورد في الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار لمّا أرادوا أن يبايعوه، فقال أبو الهيثم بن التّيهان: إنّ بيننا وبين القوم حبالا نحن قاطعوها ونخشى إن الله أعزّك وأظهرك أن ترجع إلى قومك، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «لا بل الدّم الدّم، والهدم الهدم، واللّدم اللّدم» أي حرمتي مع حرمتكم أطلب الدّم بطلبكم، وأعفو بعفوكم، فأجرى الكلام صلى الله عليه وسلم على ما كان يجرونه حينئذ عند التّحالف وقال الشّاعر:
ثم الحقي بهدمي ولدمي: أي أصلي وموضعي. والهدم متحركا المهدوم. وقال أوس يصف عيرا:
إذا استقبلته الشّمس صدّ بوجهه ... كما صدّ عن نار المهول حالف
وكان قوم اختلفوا عند نار فغشوها حتّى محشتهم النّار، فسمّوا المحاش. لذلك قال النّابغة يخاطب رئيسهم.
جمع محاشك يا يزيد فإنّني ... جمّعت يربوعا لكم وتميما
ونار أخرى: وهي التي كانوا يوقدونها خلف المسافر والزائر الذي لا يريدون رجوعه.
لذلك قال بشار:
صحوت وأوقدت للجهل نارا ... وردّ عليك الصّبيّ ما استعارا
ونار أخرى توقد لجمع النّاس للحرب، وتوقّع جيش عظيم. قال عمرو بن كلثوم:
ونحن غداة أوقد في خزازى ... رفدنا فوق رفد الرّافدينا

الصفحة 535