كتاب تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير

زائدة خص بها. يرفده- بعد الذكاء المشرق، والقريحة الوقادة، والبصيرة النافذة- بيان ناصع، واطلاع واسع، وذرع فسيح في العلوم النفسية والكونية، وباع مديد في علم الاجتماع، ورأي سديد في عوارضه وأمراضه.
يمد ذلك كله شجاعة في الرأي، وشجاعة في القول، لم يرزقهما إلاّ الأفذاذ المعدودون في البشر.
وله في القرآن رأي بنى عليه كل أعماله في العلم، والإصلاح، والتربية والتعليم: وهو أنه لا فلاح للمسلمين إلاّ بالرجوع إلى هدايته والاستقامة على طريقته، وهو رأي الهداة المصلحين من قبله.
وكان يرى- حين تصدى لتفسير القرآن- أن تدوين التفسير بالكتابة مشغلة عن العمل المقدم؛ لذلك آثر البدء بتفسيره درسا تسمعه الجماهير فتتعجل من الاهتداء به ما يتعجله المريض المنهك من الدواء، وما يتعجله المسافر العجلان من الزاد.
وكان- رحمه الله- يستطيع أن يجمع بين الحسنيين، لولا أنه كان مشغولا مع ذلك بتعليم جيل، وتربية أمة، ومكافحة أمية، ومعالجة أمراض اجتماعية، ومصارعة استعمار يؤيدها.
فاقتصر على تفسير القرآن درسا ينهل منه الصادي، ويتزود منه الرائح والغادي، وعكف عليه إلى أن ختمه في خمس وعشرين سنة. ولم يختم التفسير درسا ودراية بهذا الوطن غيره، منذ ختمه "أبو عبد الله الشريف التلمساني" في المائة الثامنة.
كان ذلك الأخ الصديق رحمه الله يعلل النفس باتساع الوقت وانفساح الأجل حتى يكتب تفسيرا على طريقته في الدرس. وكان كلما جرتنا شجون الحديث إلى التفسير، يتمنى أن نتعاون على كتابة التفسير، ويغريني بأن الكتابة علي أسهل منها عليه.
ولا أنسى مجلسا كنا فيه على ربوة من جبل تلمسان في زيارة من زياراته لي، وكنا في حالة حزن لموت الشيخ "رشيد رضا" قبل أسبوع من ذلك اليوم، فذكرنا تفسير المنار، وأسفنا لانقطاعه بموت صاحبه فقلت له: «ليس لإكماله إلاّ أنت». فقال لي: «ليس لإكماله إلاّ أنت». فقلت له: «حتى يكون لي علم رشيد، وسعة رشيد، ومكتبة رشيد، ومكاتب القاهرة المفتوحة في وجه رشيد». فقال لي واثقا مؤكدا: «إننا لو تعاونا وتفرغنا للعمل لأخرجنا للأمة تفسيرا يغطي على التفاسير من غير احتياج إلى ما ذكرت».
ولما احتفلت الأمة الجزائرية ذلك الاحتفال الحافل بختمه لتفسير القرآن عام 1357هـ، وكتبت بقلمي تفسير المعوذتين مقتبسا من درس الختم، وأخرجته في ذلك الأسلوب الذي قرأه الناس في مجلة الشهاب أعجب به أيما إعجاب؛ وتجدد أمله في أن نتعاون على كتابة تفسير كامل، ولكن العوارض باعدت بين الأمل والعمل سنتين.
ثم جاء الموت فباعد بيني وبينه.

الصفحة 20