كتاب كنز الكتاب ومنتخب الأدب (اسم الجزء: 2)

وكان مِمَّنْ هذى باسمها، وتعرَّف على حكمها، وكانت أمامَ دارِه بركةٌ تتولدُ من الأمطار، وربما استمدتْ بشيء ومما
كان ثم من الأقذار، فمرتْ به، وهو قاعدّ قد نشرَ كميه، ونظر في عِطْفيه، وحسن أعوانه إليه، فقالت
له: أبا عامر:
أنتَ الخصيبُ وهذه مِصْرُ ... فتَدَفَّقا فَكِلاكُما بحْرُ
وهذا البيت لأبي نواس من أبيات له في الخصيب والد ابراهيم عامل مصر. فتركته لا يحيرُ حرفاً،
ولا يَرُدُّ طرْفاً.
وطال عُمْرُها وعُمْرُ أبي عامر المذكور حتى أوفيا على الثمانين وهو لا يدعُ مُواصَلَتها، ولا يَغْفُلُ
مُراسَلتها، وتحيف الدهرُ المُسْتَطيلُ حالَ ولادة حتى لم يتْرُك لها شيئا من الوفْر إلا أبادَه. فكان أبو
عامر هذا يحمل كلها، ويرفعُ ظلها، على جَذْبِ واديه، ورُكود روائحه وغواديه، أثراً جميلا أبقاه،
وطَلقاً من الظَّرْف جرى إليه حتى استوفاه.
وأما أبو الوليد أحمد بن زيدون فعلمّ من أبناء العُلى، ومَحَاسِنُهُ مدى الأيام تُتْلى، وتُطَرّز بكلام الكتب
وتحلى، مرتبه في ذُرَى المجد، مُطْنَبٌ بالفخار، ومحْتده زاكي النِّجار، وأخباره مع الملوك مشهورة،
مروية في الكتب مسطورة، وحين هَمَّ بدره بالكمال، وأشْرَف علي احتفال الحال، تداركه حيْفُ
الزمن، فاعتقل وامتهن وحيل بينه وبين ولادة حتى يَئسَ من لقائها، أو أن يَنال نظره في محياها
بنكبة اشتدت بها حسراته، وتوقَّدت لها لَوْعاته وزفراتُه، فشجيت نفسه، وقَلَتْه الأيام كما (قَلَتْ صخْرا
سُلَيْمى عِرْسُهُ) فعند ذلك قال قصيدته الفريدة التي ضربت في الإبداع بأعلى سهم، وقصَّر عنها ابن
أوس

الصفحة 533