كتاب كنز الكتاب ومنتخب الأدب (اسم الجزء: 2)

فخرجت، وأنا فرحان جذلان.
فلقيتني سوداء، على عاتقها جرة، وهي تغني هذا الصوت؛ فأذهلتني عن كل مهم، وأنساني ما
سمعت منها كل حاجة. فقلت لها: بحق صاحب القبر، أَلاَ أَلْقَيْتِ عَلَيَّ هذا الصَّوت. فقالت: وحقِّ
صاحب القبر، لاَ أَلْقَيْتُهُ عليك، إلا بدرهمين. فأخرجت - والله يا أمير المومنين - الدرهمين اللذين
أعددتهما للضريبة، ودفعتهما إليها فحدَّرَت الجَرَّة عن عاتقها، وقعدت تُوَقِّع عليها، واندفعت تغنيه. فما
زالت تردده عليّ، حتى كتب في صدري. وانصرفت إلى مولاي؛ فلما رآني، قال: هَلُم خراجك
فقلت: كان وكان. فقال يا ابن اللخناء ألم أتقدم إليك، إني لا أقبل لك عذرا، في حبة تكسرها، ثم
بَطَحَني، فضربني خمسين جريدة، بأشد ضرب يكون. وحلق رأسي، ولحيتي. فبت - يا أمير
المومنين - أسوء خلق الله حالا. وأنسيت الصوت، من حرارة ما نالني من الضرب. فلم يكن شيء،
هو أشد عليّ من نسيان الصوت فلما أصبحت، غطيت رأسي، وأخذت جَلَمي في كمي، ومضيت نحو
الموضع الذي لقيت فيه السوداء. فبقيت كالمتحيِّر، لا أعرف لها إسما، ولا منزلا، فلم أبرح على تلك
الحال، حتى بصرتُ بها مقبلة؛ فأنسيت كل ما نالني عند رؤيتها، وملت إليها، فقالت: أنسيت، ورب
الكعبة، الصوت. فقلت لها: الأمر كما ظننت. وعرفتها ما اتفق

الصفحة 586