كتاب رسالة في حقيقة التأويل

تتقيهم بالتخيلات. وقد أُثِرَ عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: "إن للعقل حدا ينتهي إليه، كما أن للبصر حدا ينتهي إليه".
أقول: وقد جربنا أن من كُلِّف بصره إدراك ما لا يستطيع إدراكه يخيل إليه أنه يدرك ذلك، فكم مرة تراءى الناس الهلال فتراءيته معهم، فإذا حدقت وأمعنت في النظر يخيل إلي أني قد رأيته، ولكنها خطفة لا تثبت، ثم أيأس من ذلك الموضع فأنظر إلى موضع آخر، فيخيل إلي مثل ذلك؛ فعلمت أن تلك الخطفة هي صورة خيالية هي صورة خيالية لما أتخيله تبرز إلى العيان؛ لقوة التخيل وكد البصر.
فكثيرا ما يعرض للعقل مثل هذا إذا كلف إدراك ما لا يدرك، والفرق أن خطأ البصر ينتبه له العقل، ولا يكاد ينتبه لخطأ نفسه.
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصار
وكثيرا ما يدرك العقل خطأ ما تصوره ولكنه لا ييأس، فلا يزال في أخذ ورد إلى أن يكل ويمل؛ يسمع بذهاب تعبه سدى فيقنع بالشبهة التي وقف عندها، ومثله مثل مسافر يأبى أن ينزل ليستريح

الصفحة 74